﴿ألم تر﴾ استفهام تعجيب وتشويق إلى استماع ما بعده، لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأرباب التواريخ، وقد يخاطب به من لم ير ولم يسمع، وهذا هنا أولى، فإنه صار مثلاً في التعجيب، أي : ينته علمك ﴿إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف﴾ أربعة أو ثمانية أو عشرة أو ثلاثون أو أربعون أو سبعون ألفاً، وقوله تعالى :﴿حذر الموت﴾ مفعول له، هم قوم من بني إسرائيل كانوا في قرية يقال لها : داوردان، جهة واسط وقع بها الطاعون، فخرجت، طائفة منها وبقيت طائفة فهلك أكثر من بقي في القرية، وسلم الذين خرجوا، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين، فقال الذين بقوا : أصحابنا كانوا أحزم منا لو صنعنا كما صنعوا لبقينا، ولئن وقع الطاعون ثانياً لنخرجنّ إلى أرض لا وباء بها، فوقع الطاعون من قابل فهرب عنها أهلها، وخرجوا حتى نزلوا وادياً أفيح، فلما نزلوا المكان الذي يبتغون فيه النجاة ناداهم ملك من أسفل الوادي، وآخر من أعلاه أن موتوا فماتوا جميعاً، ثم أحياهم الله تعالى كما قال تعالى :﴿فقال لهم الله موتوا﴾ أي : فماتوا ﴿ثم أحياهم﴾ ليعتبروا ويتيقنوا أن لا مفر من قضاء الله وقدره. وقيل : قوم من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد، ففروا حذر الموت، فأماتهم الله ثمانية أيام أو أكثر، ثم أحياهم بدعاء نبيهم حِزْقِيل ـ بكسر المهملة والقاف وسكون الزاي ـ ثالث خلفاء بني إسرائيل بعد موسى، وكان يقال له ابن العجوز ؛ لأنّ أمّه كانت عجوزاً، فسألت الله الولد بعدما كبرت وعقمت، فوهبه الله تعالى لها.
قال الحسن ومقاتل : هو ذو الكفل، وسمي حزقيل ذا الكفل ؛ لأنه كفل سبعين نبياً وأنجاهم من القتل، قال : اذهبوا فإني إن قتلت كان خيراً من أن تقتلوا معي جميعاً، فلما جاء اليهود وسألوا حِزْقِيل عن الأنبياء السبعين، قال لهم : ذهبوا وما أدري أين هم، ومنع الله حِزْقِيلَ من اليهود، فلما مر حِزْقِيل على تلك الموتى وقف عليهم، فجعل يتفكر فيهم فبكى، وقال : يا رب كنت في قوم يحمدونك، ويسبحونك، ويقدّمونك، ويكبرونك، ويهللونك، فبقيت وحدي لا قوم لي، فأوحى الله تعالى إليه أن ناد : أيتها العظام إنّ الله يأمرك أن تجتمعي فاجتمعت العظام من أعلى الوادي وأدناه، حتى التزق بعضها ببعض، كل عظم جسد التزق بجسده، فصارت أجساداً من عظام لا لحم ولا دم، ثم أوحى الله تعالى إليه : أن ناد أيتها الأجسام إنّ الله يأمرك أن تكسي لحماً، فاكتست لحماً، ثم أوحى الله إليه أن ناد : أيتها الأجساد إنّ الله يأمرك أن تقومي فبعثوا أحياء ورجعوا إلى بلادهم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٨١
وقال مجاهد : إنهم قالوا حين أحيوا : سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت، فرجعوا إلى قومهم وعاشوا دهراً عليهم أثر الموت، لا يلبسون ثوباً إلا عاد كالكفن حتى ماتوا لآجالهم، التي كتبت لهم، ولو جاءت آجالهم ما بعثوا، واستمرّ ذلك في أسباطهم، قال ابن عباس : وأثر ذلك ليوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود.
وفائدة هذه القصة تشجيع المسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة، وحثهم على التوكل
١٨٢
والاستسلام للقضاء فإنّ الموت إذا لم يكن منه بد ولم ينفع منه مفرّ، فأولى أن يكون في سبيل الله تعالى ﴿إنّ الله لذو فضل على الناس﴾ أي : عامّة فليذكر كل أحد ماله عليه من الفضل ﴿ولكن أكثر الناس لا يشكرون﴾ كما ينبغي أمّا الكفار فلم يشكروا، وأمّا المؤمنون فلم يبلغوا غاية شكره.
تنبيه : إنما كرّر الناس، ولم يضمر ليكون أنصّ على العموم لئلا يدّعي مدع أنّ المراد بالناس الأوّل أهل زمان فيخص بالثاني أكثرهم.
﴿وقاتلوا في سبيل الله﴾ أعداء الله لتكون كلمة الله هي العليا ﴿واعلموا أنّ الله سميع﴾ لأقوالكم فيسمع ما يقوله المتخلفون والسابقون ﴿عليم﴾ بأحوالكم فيعلم ما تضمرونه فيجازيكم.


الصفحة التالية
Icon