﴿من ذا الذي يقرض الله﴾ الذي تفرد بالعظمة بإنفاق ماله في سبيل الله ومن استفهامية مرفوعة، الموضع بالابتداء، وذا خبره، والذي : صفة ذا أو بدل، وإقراض الله مثل لتقديم العمل الذي يطلب ثوابه، فهو اسم لكل ما يعطيه الإنسان ليجازى عليه، فسمى الله تعالى عمل المؤمنين له على رجاء ما وعد لهم من الثواب قرضاً ؛ لأنهم يعملون لطلب ثوابه، وأصل القرض في اللغة القطع، سمي القرض به ؛ لأنه يقطع من ماله شيئاً يعطيه ليرجع إليه مثله وقيل : في الآية اختصار، معناه : من ذا الذي يقرض عباد الله المحتاجين من خلقه كقوله تعالى :﴿إنّ الذين يؤذون الله﴾ (الأحزاب، ٥٧) أي : عباد الله كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله ﷺ "إنّ الله يقول يوم القيامة : ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال : يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟
قال : استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ؟
" ﴿قرضاً حسناً﴾ أي : جامعاً لطيب النفس وإخلاص النية، وقيل : لا يمنّ به ولا يؤذي. ولما كانت النفس مجبولة على الشح بما عندها إلا لفائدة رغبّها سبحانه وتعالى في ذلك بقوله :﴿فيضاعفه﴾ أي : جزاءه ﴿له﴾ في الدنيا والآخرة، وأوّل هذه المضاعفة أنّ الزائد ضعف ليس كسراً، "كان ﷺ لا يقترض قرضاً إلا وفى عليه زيادة وقال : خياركم أحسنكم قضاء"، وقد أنبأ سبحانه وتعالى أن اقتراضه بما هو فوق ذلك، لأنه يضعف القرض بمثله وأمثاله بقوله :﴿أضعافاً كثيرة﴾ (البقرة، ٥٤٥) من عشر إلى أكثر من سبعمائة كما سيأتي. روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لما نزلت هذه الآية، قال أبو الدحداح الأنصاري :"يا رسول الله إنّ الله ليريد منا القرض قال : نعم يا أبا الدحداح قال : أرني يدك يا رسول الله فناوله يده قال : فإني قد أقرضت ربي حائطي، وحائطه فيه ستمائة نخلة وأمّ الدحداح فيه وعيالها فجاء أبو الدحداح فناداها : يا أمّ الدحداح قالت : لبيك قال : اخرجي فقد أقرضت ربي عز وجل".
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٨١
وقرأ ابن عامر وعاصم فيضاعفه بنصب الفاء على جواب الاستفهام حملاً على المعنى، فإنّ من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً في معنى أيقرض الله أحد، والباقون برفعها، وأسقط الألف وشدّد العين ابن كثير وابن عامر، والباقون بإثبات الألف وتخفيف العين، ولما رغّب سبحانه وتعالى في إقراضه، أتبعه جملة خالية من ضمير يضاعف مرهبة مرغبة فقال :﴿والله يقبض﴾ أي :
١٨٣
يمسك الرزق عمن يشاء ابتلاء ﴿ويبسط﴾ أي : يوسعه لمن يشاء امتحاناً، بحسب ما اقتضته حكمته سبحانه وتعالى، وقرأ قنبل وأبو عمرو وابن عامر وحفص وحمزة وبالسين، بخلاف عن ابن ذكوان وخلاد، والباقون بالصاد والرسم بالصاد ﴿وإليه ترجعون﴾ أي : فيجازيكم على ما قدّمتم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٨١
﴿ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل﴾ أي : إلى قصتهم، والملأ من القوم أشرافهم، وأصل الملأ الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه، كالقوم والرهط، والإبل، والخيل والجيش، ومن للتبعيض ﴿من بعد﴾ موت ﴿موسى﴾ ومن للابتداء ﴿إذ قالوا لنبيّ لهم﴾ أكثر المفسرين على أنه شمويل، قال مقاتل : هو من نسل هرون، وقيل : هو يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف عليه الصلاة والسلام وقيل : هو شمعون، وإنما سمي بذلك ؛ لأنّ أمّه دعت الله أن يرزقها غلاماً فاستجاب دعاءها فسمته شمعون تقول : سمع الله دعائي والسين تصير شيناً بالعبرانية وسبب سؤال بني إسرائيل نبيهم، ذلك أنه لما مات موسى عليه الصلاة والسلام وخلف، في بني إسرائيل الخلوف وعظمت الخطايا سلّط الله عليهم قوم جالوت وكانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين، وهم العمالقة فظهروا على بني إسرائيل وغلبوا على كثير من أرضهم، وسَبَوا كثيراً من ذراريهم، وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين غلاماً، وضربوا عليهم الجزية، وأخذوا توراتهم، ولقي بنو إسرائيل منهم بلاءً كثيراً وشدّة، ولم يكن لهم حينئذٍ نبيّ يدبر أمرهم، وكان سبط النبوّة هلكوا، فلم يبق منهم إلا امرأة حبلى فحبسوها في بيت، رهبة أن تلد جارية فتبدلها بغلام لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها، وجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاماً فولدت غلاماً فسمته شمعون، تقول : سمع الله دعائي فكبر الغلام فأسلمته لتعليم التوراة في بيت المقدس، فكفله شيخ من
١٨٤
علمائهم وتبناه، فلما بلغ الغلام أتاه جبريل، فقال له : اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك فإنّ الله قد بعثك فيهم نبياً، فلما أتاهم كذّبوه وقالوا : استعجلت بالنبوّة فإن كنت صادقاً ﴿ابعث﴾ أي : أقم ﴿لنا ملكاً نقاتل﴾ معه ﴿في سبيل الله﴾ فتنتظم به كلمتنا، ونرجع إليه، ويكون ذلك آية من نبوّتك.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٨٤