وإنما كان قوام بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك، وطاعة الملوك أنبياءهم، فكان الملك هو الذي يسير بالجموع، والنبيّ يقيم له أمره ويشير عليه برشده، ويأتيه بالخبر من ربه.
ولما قالوا له ذلك ﴿قال﴾ لهم ﴿هل عسيتم﴾ قرأ نافع بكسر السين، والباقون بفتحها، وقوله تعالى :﴿إن كتب﴾ أي : فرض ﴿عليكم القتال﴾ مع ذلك الملك ﴿أن لا تقاتلوا﴾ خبر عسى والاستفهام لتقرير المتوقع بها بمعنى التثبت للمتوقع، وإن كان الشائع من التقرير هو الحمل على الإقرار.
﴿قالوا : وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا﴾ بسبيهم وقتلهم أي : أي غرض لنا في ترك القتال وقد عرض لنا ما يوجبه ويحث عليه من الإخراج عن الأوطان، والإفراد عن الأولاد.
﴿فلما كتب عليهم القتال تولوا﴾ عنه وجبنوا وضيعوا أمر االله تعالى ﴿إلا قليلاً منهم﴾ وهم الذين عبروا النهر مع طالوت وانتصروا على الفرقة على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، وقوله تعالى :﴿وا عليم بالظالمين﴾ وعيد لهم على ظلمهم في ترك الجهاد.
تنبيه : هذه الأقاصيص ليس المراد منها حديثاً عن الماضين، وإنما هو إعلام بما يستقبل الآتون، كما قال القائل : إياك أعني واسمعي يا جارة، فلذلك لا يسمع القرآن من لم يأخذ بجملته خطاباً لهذه الأمّة بكل ما قص له من أقاصيص الأوّلين. ثم سأل النبيّ ﷺ ربه أن يبعث لهم ملكاً فأتى بعصا وقرن فيه دهن القدس، وقيل له : إن صاحبكم الذي يكون ملكاً يكون طوله طول هذه العصا، وانظر القرن الذي فيه الدهن، فإذا دخل عليك رجل ونشّ الدهن الذي في القرن، فهو ملك بني إسرائيل، فادهن به رأسه وملّكه عليهم، وكان طالوت واسمه بالعبرانية شاول بن قيس من أولاد بنيامين بن يعقوب، سمي طالوت لطوله وكان أطول من كل أحد أي : في زمانه برأسه ومنكبه، وكان رجلاً دباغاً، يعمل الأديم قاله وهب، وقال السدّي : كان سقاء يسقي على حمار له من النيل، فضلّ حماره، فخرج في طلبه، وقال وهب : بل ضلت حمر لأبي طالوت، فأرسله وغلاماً له في طلبها، فمرّ ببيت شمويل فقال الغلام لطالوت : لو دخلنا على هذا النبيّ فسألناه على أمر الحمير ليرشدنا، ويدعو لنا، فدخلا عليه فبينما هما عنده يذكران له شأن الحمر، إذ نش الدهن الذي في القرن، فقام شمويل فقاس طالوت بالعصا، فكانت على طوله، فقال لطالوت : قرب رأسك فقرّبه فدهنه بدهن القدس ثم قال له : أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله أن أملكه عليهم، فقال طالوت : أما علمت أنّ سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل وبيتي أدنى بيوتهم ؟
قال : بلى قال : فبأي آية ؟
قال : بآية أنك ترجع وقد وجدت الحمر، فكان كذلك ثم، أخبرهم نبيهم بذلك كما قال تعالى :
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٨٤
وقال لهم نبيهم﴾ الذي تقدّم ذكره ﴿إنّ الله قد بعث لكم﴾ أي : لأجل سؤالكم ﴿طالوت ملكاً﴾ وهو اسم أعجمي كجالوت، وداود، وإنما امتنع من الصرف لتعريفه وعجمته ﴿قالوا أنى﴾ أي : كيف ﴿يكون له الملك علينا﴾ أي : من أين يكون له ذلك ؛ ﴿ونحن﴾ أي : والحال أنا نحن
١٨٥
﴿أحق﴾ أي : أولى ﴿بالملك منه﴾ وإنما قالوا ذلك لأنه كان من بني إسرائيل سبطان سبط نبوّة، وسبطُ مملكة، فكان سبط النبوّة سبط لاوي بن يعقوب، ومنه كان موسى وهرون عليهما الصلاة والسلام، وسبط المملكة سبط يهوذا بن يعقوب، ومنه كان داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام، ولم يكن طالوت من أحدهما، إنما كان من سبط بنيامين بن يعقوب، وكانوا عملوا ذنباً عظيماً كانوا ينكحون النساء على ظهر الطريق جهاراً، فغضب الله عليهم ونزع الملك والنبوّة منهم، وكانوا يسمون سبط الإثم، فلما قال لهم نبيهم ذلك أنكروا ؛ لأنه لم يكن من سبط المملكة، ومع ذلك قالوا : هو دباغ ﴿ولم﴾ أي : والحال أنه لم ﴿يؤت سعة من المال﴾ يستعين بها على إقامة الملك ولما استبعدوا تملكه لفقره وسقوط نسبه، ردّ عليهم ذلك بأمور حكاها الله تعالى عن نبيهم بقوله تعالى :﴿قال﴾ أي : نبيهم ﴿إنّ الله اصطفاه﴾ أي : اختاره للملك ﴿عليكم﴾ والعهدة في التملك اصطفاء الله تعالى وقد اختاره عليكم، وهو أعلم بالمصالح منكم هذا الأمر الأوّل، والثاني قوله :﴿وزاده﴾ عليكم ﴿بسطة﴾ أي : سعة ﴿في العلم﴾ الذي يحصل به نظام المملكة ويتمكن به من معرفة الأمور السياسية ﴿و﴾ في ﴿الجسم﴾ الذي به يتمكن من الظفر بمن بارزه من الشجعان وقصده من سائر الأقران، ويكون أعظم خطراً في القلوب وأقوى على مقاومة العدوّ، ومكابدة الحروب، لا ما ذكرتم وقد زاده الله في العلم، فكان أعلم بني إسرائيل يومئذٍ، والجسم فكان أجملهم وأتمهم خلقاً، كان الرجل القائم يمدّ يده فيتناول رأس طالوت.