والثالث قوله :﴿وا يؤتي ملكه﴾ أي : الذي هو له وليس لغيره فيه شيء ﴿من يشاء﴾ فإنه تعالى مالك الملك على الإطلاق، فله أن يؤتيه من يشاء سواء كان غنياً أم فقيراً، كما آتاكموه بعد أن كنتم مستعبدين عند آل فرعون والرابع قوله :﴿وا واسع﴾ أي : واسع الفضل يوسع على الفقير، ويغنيه ﴿عليم﴾ بمن يليق بالملك من النسيب وغيره.
﴿وقال لهم نبيهم﴾ لما أذعنوا لذلك وطلبوا منه آية تدلّ على أنه سبحانه وتعالى اصطفى طالوت وملكه عليهم ﴿إنّ آية﴾ أي : علامة ﴿ملكه أن يأتيكم التابوت﴾ أي : الصندوق وكان فيه صور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أنزله الله تعالى على آدم ﷺ وكان من عود الشِّمشار ـ بمعجمتين أولاهما مكسورة وبينهما ميم ساكنة ـ خشب تعمل منه الأمشاط، مموّهاً بالذهب نحواً من ثلاثة أذرع في ذراعين، فكان عند آدم إلى أن مات ثم عند شيث ثم توارثه أولاد آدم إلى أن بلغ إبراهيم، ثم كان عند إسمعيل ؛ لأنه كان أكبر ولده ثم عند يعقوب، ثم كان في بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى، ثم تداوله أنبياء بني إسرائيل، ثم استمرّ عند بني إسرائيل، وكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلم أو حكم بينهم، وإذا حضروا القتال قدّموه بين أيديهم فيستفتحون به على عدوّهم كما قال تعالى :﴿فيه سكينة﴾ أي : طمأنينة لقلوبكم ﴿من ربكم﴾ ففي أي مكان كان التابوت اطمأنوا إليه وسكنوا قاله قتادة والكلبي : لما عصوا وفسدوا سلط الله عليهم العمالقة أصحاب جالوت، فغلبوهم على التابوت وأخذوه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٨٤
وقال علي : هو صورة لها رأسان ووجه كوجه الإنسان، وقال مجاهد : هي شيء يشبه الهرة له رأس كرأس الهرّة وذنب كذنب الهرّة وله جناحان، وقيل : له عينان لهما شعاع وجناحان من زمرد وزبرجد، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هي طشت من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء، وقال وهب : هي روح من الله تتكلم إذا اختلفوا في شيء تخبرهم ببيان ما يريدون.
ولما كان الكليم وأخوه عليهما الصلاة والسلام أعظم أنبيائهم قال :﴿و﴾ فيه ﴿بقية مما ترك
١٨٦
آل موسى وآل هرون﴾
وآلهما أنفسهما والآل مقحم لتفخيم شأنهما.
وقيل : أبناؤهما، وقيل : أنبياء بني إسرائيل لأنهم أبناء عمّ موسى وهرون والبقية هي رضاض الألواح أي : فتاتها وعصا موسى وثيابه ونعلاه وعمامة هرون وقفيز من المنّ، الذي كان ينزل عليهم.
وقوله تعالى :﴿تحمله الملائكة﴾ حال من فاعل يأتيكم ﴿إنّ في ذلك لآية لكم﴾ على ملكه وقوله تعالى :﴿إن كنتم مؤمنين﴾ يحتمل أن يكون من كلام نبيهم، وأن يكون ابتداء خطاب من الله تعالى، فحملته الملائكة بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه، حتى وضعته عند طالوت فأقروا بملكه، وقيل : رفعه الله تعالى بعد موسى، فنزلت به الملائكة وهم ينظرون إليه، فلما رأوه لم يشكوا في النصر به، فأقروا بملكه وتسارعوا إلى الجهاد، فقال طالوت : لا حاجة لي في كل ما أرى لا يخرج معي رجل يبني بناء لم يفرغ منه، ولا صاحب تجارة مشتغل بها ولا رجل عليه دين، ولا رجل تزوّج امرأة ولم يبن بها، ولا أبتغي إلا الشاب النشيط الفارغ، فاجتمع عليه ممن اختاره ثمانون ألفاً وكان الوقت صيفاً في حرّ شديد فشكوا قلّة الماء بينهم وبين عدوّهم وقالوا : إن المياه لا تحملنا فادعو الله أن يجري لنا نهراً كما قال تعالى :
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٨٤
﴿فلما فصل﴾ أي : خرج ﴿طالوت﴾ أي : الذي ملكوه ﴿بالجنود﴾ من بيت المقدس أي : التي اختارها والجنود، جمع جند وهم أتباع يكونون نجدة للمستتبع ﴿قال إنّ الله مبتليكم﴾ أي : مختبركم ليظهر منكم المطيع والعاصي وهو أعلم ﴿بنهر﴾ قال ابن عباس والسدّي : هو نهر فلسطين وقال قتادة نهر بين الأردن وفلسطين عذب ﴿فمن شرب منه﴾ أي : من مائه فليس مني أي : من أتباعي ﴿ومن لم يطعمه﴾ أي : يذقه ﴿فإنه مني﴾ أي : من أتباعي، وإنما علم ذلك بالوحي إن كان نبياً كما قيل أو بإخبار النبيّ عليه الصلاة والسلام وقوله تعالى :﴿إلا من اغترف غرفة بيده﴾ أي : فاكتفى بها ولم يزد عليها، "فإنه مني" استثناء من قوله تعالى : فمن شرب، وإنما قدّمت عليه الجملة الثانية ؛ للعناية بها كما قدّم الصابئون على خبر إن في قوله :﴿إنّ الذين آمنوا والذين هادوا﴾ (البقرة، ٦٢) والمعنى الرخصة في القليل دون الكثير، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو غرفة بفتح الغين والباقون بضمها.
فائدة : قال أبو عمرو بن العلاء : سمعت أعرابياً ينشد وقد كنت خرجت إلى ظاهر البصرة متفرجاً مما نالني من طلب الحجاج :
*صبر النفس عند كل ملم ** إن في الصبر حيلة المحتال*
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٨٧
لا تضيقن في الأمور فقد تك ** شف لأواؤها بغير احتيال*
*ربما تجزع النفوس من الأم ** ر له فرجة كحل العقال*
*قد يصاب الجبان في آخر الص ** ف وينجو مقارع الأبطال*


الصفحة التالية
Icon