وروي عنه أنه قال :"فضلت على الأنبياء بست : أوتيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون".
﴿وأتينا عيسى ابن مريم البينات﴾ من إحياء الموتى وغيره ﴿وأيدناه﴾ أي : قويناه ﴿بروح القدس﴾ وهو جبريل يسير معه حيث سار، وخص عيسى ﷺ باسمه لإفراط اليهود في تحقيره، والنصارى في تعظيمه حيث قالوا : هو ابن الله وأبهم محمداً ﷺ في قوله تعالى :﴿بعضهم﴾ حيث لم يقل ورفع محمداً ﷺ لما في الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس، ويقال للرجل : من فعل هذا ؟
فيقول أحدكم أو بعضكم، يراد به الذي تعورف واشتهر، فيكون أفخم من التصريح به وأنوه بصاحبه. وسئل الحطيئة عن أشعر الناس فذكر زهيراً والنابغة ثم قال : ولو شئت لذكرت الثالث أراد نفسه، ولو قال : ولو شئت لذكرت نفسي لم يفخم أمره.
﴿ولو شاء الله﴾ أي : الذي له جميع الأمر، هدى الناس جميعاً باتفاقهم على دين واحد ﴿ما اقتتل الذين من بعدهم﴾ أي : بعد الرسل أي : ما اقتتلت أممهم ﴿من بعد ما جاءتهم البينات﴾ أي : المعجزات الواضحات على أيدي رسلهم ؛ لاختلافهم في الدين وتضليل بعضهم بعضاً ﴿ولكن اختلفوا﴾ لمشيئته تعالى ذلك ﴿فمنهم﴾ أي : فتسبب عن اختلافهم إن كان منهم ﴿من آمن﴾ أي : ثبت على إيمانه ﴿ومنهم من كفر﴾ كالنصارى بعد المسيح.
١٩٢
ولما كان من الناس من أعمى الله قلبه فنسب أفعال المختارين من الخلق إليهم استقلالاً، قال الله تعالى معلّماً : أنّ الكل بخلقه تأكيداً لما مضى من ذلك ومعيداً ذكر الاسم الأعظم :﴿ولو شاء الله ما اقتتلوا﴾ بعد اختلافهم بالإيمان والكفر ﴿ولكنّ الله يفعل ما يريد﴾ فيوفق من يشاء فضلاً منه، ويخذل من يشاء عدلاً منه، والآية دليل على أنّ الأنبياء متفاوتة الأقدام، وأنه يجوز تفضيل بعضهم على بعض، ولكن بنصّ لأنّ اعتبار الظنّ فيما يتعلق بالعمل لا بالاعتقاد، وأن الحوادث بيد الله لقوله تعالى :﴿يفعل ما يريد﴾ تابعة لمشيئته تعالى خيراً كان أو شرّاً إيماناً أو كفراً.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٩١
ولما كان الاختلاف على الأنبياء سبباً للجهاد، الذي هو حظيرة الدين وكان عماد الجهاد النفقة أتبع ذلك قوله رجوعاً إلى أوّل السورة من هنا إلى آخرها، وأتى التأكيد بلفظ الأمر لما تقدّم الحثّ عليه من أمر النفقة.
﴿يأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم﴾ أي : مما أوجبت عليكم إنفاقه من الزكاة، قاله السديّ وقال غيره أراد به صدقة التطوّع والنفقة في الخير، أي : فلا تبخلوا بالإنفاق فإنه لا داء أدوأ من البخل. قال تعالى :﴿ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون﴾ (الحشر، ٩) (التغابن، ١٦) وصرف الأمر بالتبعيض إلى الحلال الطيب يمنع احتجاج المعتزلة بها، في أنّ الرزق لا يكون إلا حلالاً، لكونه مأموراً به.
وأتبعه بما يرغب ويرهب من حلول يوم التناد الذي تنقطع فيه الأسباب التي أقامها سبحانه وتعالى في هذه الدار فقال :﴿من قبل أن يأتي يوم﴾ موصوف بأنه ﴿لا بيع فيه﴾ أي : فداء ﴿ولا خلّة﴾ أي : صداقة تنفع ﴿ولا شفاعة﴾ بغير إذنه والمعنى أنه لا يفدى فيه أسير بمال ولا يراعي الصداقة من مساو، ولا الشفاعة من كبير، لعدم إرادة الله تعالى لشيء من ذلك ولا يكون إلا ما يريد، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالنصب في بيع وخلة وشفاعة، ولا تنوين على الأصل، والباقون بالرفع والتنوين على أنها في تقدير جواب هل فيه بيع أو خلة أو شفاعة.
ولما حثّ سبحانه وتعالى على الإنفاق ختم الآية بذمّ الكافرين، بكونهم لم يتحلوا بهذه الصفة، لتخليصهم من الإيمان وبعدهم منه وتكذيبهم بذلك اليوم، فهم لا ينفقون لخوفه وإرهابه فقال بدل ولا نصرة لكافر ﴿والكافرون﴾ أي : المعلوم كفرهم في ذلك اليوم ﴿هم﴾ المختصون بأنهم ﴿الظالمون﴾ أي : الكاملون في الظلم لا غيرهم.
وقوله سبحانه :
﴿الله لا إله إلا هو﴾ مبتدأ وخبر والمعنى أنه المستحق للعبادة لا غير ﴿الحيّ﴾ أي : الدائم البقاء ﴿القيوم﴾ أي : الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظهم ﴿لا تأخذه سنة﴾ وهي ما يتقدّم النوم من الفتور، الذي يسمى النعاس، قال ابن الرقاع العاملي :
*وسنان أقصده (أي : أصابه) النعاس فرنقت ** في عينه سنة وليس بنائم*
أي : لا يأخذه نعاس ﴿ولا نوم﴾ وهو حالة تعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة، بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس.
١٩٣