فإن قيل : تقديم السنة على النوم قياس المبالغة عكسه، أجيب : بأنّ هذا ذكر ترتيب الوجود، إذ وجود السنة سابق على وجود النوم، فهو على طريقة لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، قصداً إلى الإحاطة والإحصاء ؛ ولأنه لمّا عبر بالأخذ الذي هو بمعنى القهر والغلبة وجب تقديم السنة كما لو قيل : فلان لا يغلبه أمير ولا سلطان، وجملة لا تأخذه سنة ولا نوم نفي للتشبيه بينه وبين خلقه وتأكيد لكونه حياً قيوماً فإن من أخذه نعاس أو نوم كان بآفة تخلّ بالحياة قاصراً في الحفظ والتدبير، ولذلك ترك العاطف فيه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٩١
وفي الجمل التي بعده من قوله :﴿له ما في السموات وما في الأرض﴾ إلخ.. وقوله تعالى :﴿له﴾ أي : بيده وفي تصرّفه واختصاصه ﴿ما في السموات وما في الأرض﴾ أي : ملكاً وخلقاً تقرير لقيوميته، واحتجاج على تفرّده في الألوهية، والمراد بما فيهما ما وجد فيهما داخلاً في حقيقتهما كالكواكب والنبات والمعادن، وخارجاً عنهما متمكناً منهما، كالملائكة والإنس والجنّ.
وقوله تعالى :﴿من ذا الذي﴾ أي : لا أحد ﴿يشفع عنده إلا بإذنه﴾ له بيان لكبرياء شأنه وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه، يستقل بأن يدفع ما يريده شفاعة وتواضعاً فضلاً أن يدفعه عناداً ومخاصمة ﴿يعلم ما بين أيديهم﴾ في الخلق من أمر الدنيا ﴿وما خلفهم﴾ أي : من أمر الآخرة قاله مجاهد، وقال الكلبي : ما بين أيديهم يعني : الآخرة ؛ لأنهم يقدمون عليها وما خلفهم الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم وقيل : ما بين أيديهم ما قدّموا من خير وشرّ وما خلفهم ما هم فاعلوه ﴿ولا يحيطون بشيء﴾ أي : قليل ولا كثير ﴿من علمه﴾ أي : لا يعلمون شيئاً من معلوماته ﴿إلا بما شاء الله﴾ أن يعلمهم به منها بإخبار الرسل ﴿وسع كرسيه السموات والأرض﴾ اختلف في الكرسي فقال الحسن : هو العرش نفسه، وقال أبو هريرة : هو موضع أمام العرش، والأحاديث تدل عليه، ومعنى وسع أنّ سعته مثل سعة السموات والأرض، وفي الأخبار أن السموات والأرض في جنب الكرسي كحلقة في فلاة والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاة.
ويروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ السموات السبع في الكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس، وقال علي ومقاتل : كل قائمة من الكرسي طولها مثل السموات السبع والأرضين السبع، وهو بين يدي العرش، ويحمل الكرسي أربعة أملاك لكل ملك أربعة وجوه وأقدامهم في الصخرة التي تحت الأرض السابعة السفلى مسيرة خمسمائة عام، ملك على صورة أبي البشر آدم عليه الصلاة والسلام، وهو يسأل للآدميين الرزق والمطر من السنة، إلى السنة وملك على صورة سيد الأنعام وهو الثور، يسأل للأنعام الرزق من السنة إلى السنة، وعلى وجهه غضاضة منذ عبد العجل، وملك على صورة سيد السباع، وهو الأسد يسأل الرزق للسباع من السنة إلى السنة، وملك على صورة سيد الطير وهو النسر، يسأل للطير الرزق من السنة إلى السنة، وفي بعض الأخبار أن ما بين حملة العرش وحملة الكرسي سبعين حجاباً من ظلمة وسبعين حجاباً من نور، غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام، لولا ذلك لاحترقت حملة الكرسي من نور حملة العرش وقيل : المراد بالكرسي علمه، وقيل : ملكه وقيل : تصوير لعظمته وتمثيل مجرّد ﴿ولا يؤده﴾ أي : لا يثقله ولا يشق عليه ﴿حفظهما﴾ أي : السموات والأرض ﴿وهو العليّ﴾ أي : الرفيع فوق خلقه المتعالي عن الأشباه والأنداد ﴿العظيم﴾ أي : الكبير الذي لا شيء أعظم منه، المستحقر بالإضافة إليه كل ما سواه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٩١
وهذه الآية تسمى آية الكرسي، مشتملة على أمّهات المسائل الإلهية، فإنها دالة على أنه
١٩٤
موجود واحد في الإلهية، متصف بالحياة واجب لوجود لذاته، موجد لغيره، إذ القيوم هو القائم بنفسه المقيم لغيره منزه عن التحيز والحلول، مبرّأ عن التغير والفتور، لا يناسب الأشباح ولا يعتريه ما يعتري الأرواح، مالك الملك والملكوت، ومبدع الأصول والفروع، ذو البطش الشديد، الذي لا يشفع عنده إلا من أذن له، عالم بالأشياء كلها جليها وخفيها كليها وجزئيها، واسع الملك والقدرة، إذ المقدور كل ما يصح أن يملك ويقدر عليه لا يؤده شاق ولا يشغله شان، عن شان متعال عما يدركه وهم عظيم فلا يحيط به فهم، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام :"إنّ أعظم آية في القرآن الكرسي" رواه مسلم، وروى النسائيّ وابن حبان وغيرهما أنه ﷺ قال :"من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت" أي : فإذا مات دخل الجنة.