﴿وا يضاعف لمن يشاء﴾ بفضله تلك المضاعفة أو يضاعف على هذا ويزيد لمن شاء ما بين
٢٠٢
سبعين إلى سبعمائة إلى ما شاء من الأضعاف مما لا يعلمه إلا الله على حسب حال المنفق من إخلاصه وتعبه، ومن أجل ذلك تتفاوت الأعمال في مقادير الثواب ﴿وا واسع﴾ أي : غنيّ يعطي عن سعة ﴿عليم﴾ بنية المنفق وقدر إنفاقه وبمن يستحق المضاعفة.
﴿الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله﴾ أي : طاعته، قال الكلبيّ : نزلت في عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما، جاء عبد الرحمن بأربعة آلاف درهم صدقة إلى رسول الله ﷺ فقال : كان عندي ثمانية آلاف درهم فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف وأربعة آلاف أقرضتها ربي، فقال له رسول الله ﷺ "بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت" وأمّا عثمان فجهز المسلمين في غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها وأحلاسها وألف دينار.
قال عبد الرحمن بن سمرة جاء عثمان بألف دينار في جيش العسرة فصبّها في حجر النبيّ ﷺ فرأيت النبيّ ﷺ يدخل فيها يده ويقلبها ويقول :"ما ضرّ ابن عفان ما عمل بعد اليوم وقال : يا رب عثمان رضيت عنه فارض عنه".
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٠٠
ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً﴾
أي : على المنفق عليه بقولهم مثلاً : قد أحسنت إليه وجبرت حاله، فيعدّدون عليه النعمة، فحذر الله عباده المن بالصنيعة، واختص به صفة لنفسه ؛ لأنه من العباد تعيير وتكدير ومن الله إفضال وتذكير وكان السلف يقولون : إذا صنعتم صنيعة فانسوها، والعرب يمتدحون بترك المن ويذمون عليه فمن الأوّل قول القائل :
*زاد معروفك عندي عظما ** أنه عندك مستور حقير*
*تتناساه كأن لم تأته ** وهو في العالم مشهور كبير*
ومن الثاني قول القائل
*وإنّ امرأ أسدى إليّ صنيعة ** وذكرنيها مرّة لبخيل*
وقيل : طعم الآلاء أحلى من المنّ، وهي أمر من الآلاء مع المنّ، ويطلق المنّ أيضاً على النعمة، يقال : لفلان عليّ منة أي : نعمة وأنشد ابن الأنباري :
*فمني علينا بالسلام فإنما ** كلامك ياقوت ودرّ منظم
وقال تعالى :﴿لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً﴾ (آل عمران، ١٦٤) الآية ﴿ولا أذى﴾ له كأن يذكر ذلك إلى من لا يحب وقوفه عليه، أو يتطاول عليه بسبب ما أنعم عليه، وثم للتفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى ﴿لهم أجرهم﴾ أي : ثواب إنفاقهم ﴿عند ربهم ولا خوف عليهم﴾ أي : فلا يخافون فقد أجورهم ﴿ولا هم يحزنون﴾ في الآخرة بسبب أن لا يوجد.
﴿قول معروف﴾ أي : كلام حسن وردّ على السائل جميل، لأنّ القول الجميل وإن كان يردّ السائل يفرح قلبه، ويروح روحه وقيل : عدة حسنة ﴿ومغفرة﴾ أي : بأن يستر عليه خلته ولا يهتك ستره، ويتجاوز عنه إذا وجد منه ما ينقل عليه عند ردّه ﴿خير من صدقة﴾ يدفعها إليه ﴿يتبعها أذى﴾ أي : منّ وتعيير السائل أو قول يؤذيه.
٢٠٣
فإن قيل : لِمَ لم يعد ذكر المنّ فيقول : يتبعها منّ أو أذى ؟
أجيب : بأنّ الأذى يشمل المنّ وغيره، كما تقرّر وإنما نصّ عليه فيما مرّ لكثرة وقوعه من المتصدّقين، وعسر تحفظهم منه، ولذلك قدّم على الأذى قال بعضهم : الآية واردة في صدقة التطوّع ؛ لأنّ الواجب لا يحل منعه ويحتمل أن يراد بها الواجب، فإنه قد يعدل به عن سائل إلى سائل، وعن نفر، إلى نفر وإنما صحّ الابتداء بالنكرة وهي قول لاختصاصها بالصفة وهي معروف، وأمّا المعطوف وهو مغفرة فلا يحتاج إلى مخصص لتبعيتها ﴿وا غنيّ﴾ عن صدقة العباد، وإنما أمرهم ليثيبهم عليها ﴿حليم﴾ بتأخير العقوبة عن المانّ والمؤذي بصدقته.
﴿يأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم﴾ أي : أجورها لأنّ الصدقة وقعت فلا يصح أن تبطل ﴿بالمنّ والأذى﴾.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٠٠
فإن قيل : ظاهر هذا اللفظ أنّ مجموع المنّ والأذى يبطلان الأجر فيلزم أنه لو وجد أحدهما دون الآخر، لا يبطل الأجر، أجيب : بأنّ الشرط أن لا يوجد واحد منهما دون الآخر لأنّ قوله تعالى :﴿ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً﴾ ولا أذى يقتضي أن لا يقع هذا ولا هذا أي : فتبطل لكل واحد منهما إبطالاً.


الصفحة التالية
Icon