﴿كالذي﴾ أي : كإبطال أجر نفقة الذي ﴿ينفق ماله رئاء الناس﴾ أي : مرائياً لهم، ليروا نفقته، ويقولون : إنه كريم سخي ﴿ولا يؤمن با واليوم الآخر﴾ وهو المنافق لأنّ الكافر معلن بكفره غير مراء ﴿فمثله﴾ أي : هذا المرائي في إنفاقه ﴿كمثل صفوان﴾ وهو الحجر الأملس ﴿عليه﴾ أي : استقرّ عليه ﴿تراب﴾ والتراب معروف وهو اسم جنس لا يثنى ولا يجمع. وقال المبرد : هو جمع واحده ترابة، وفائدة هذا الخلاف أنه لو قال لزوجته : أنت طالق عدد التراب أنه يقع عليه طلقة على الأوّل وهو الأصح وثلاث على الثاني ﴿فأصابه وابل﴾ وهو المطر الشديد العظيم القطر ﴿فتركه صلداً﴾ أي : أملس نقياً من التراب وقوله تعالى :﴿لا يقدرون على شيء مما كسبوا﴾ استئناف لبيان مثل المنافق المنفق رياء أي : لا يجدون له ثواباً في الآخرة كما لا يوجد على الصفوان شيء من التراب الذي كان عليه لإذهاب المطر له.
فإن قيل : كيف قال تعالى لا يقدرون بعد قوله كالذي ينفق ؟
أجيب : بأنه تعالى أراد بالذي ينفق الجنس أو الفريق الذي ينفق ولأن من والذي يتعاقبان فكأنه قيل كمن ينفق وقد ورد عنه ﷺ أنه قال :"إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا : يا رسول الله وما الشرك الأصغر ؟
قال : الرياء يقول الله تعالى لهم يوم يجازي العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء" وروى أبو هريرة :"أنّ رسول الله ﷺ حدثه أن الله تعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ـ أي : أمره ـ ليقضي بينهم وكل أمة جاثية وأوّل من يدعى به رجل جمع القرآن ورجل قتل في سبيل الله ورجل كثير المال فيقول الله تعالى للقارىء : ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي ؟
قال : بلى قال : فماذا عملت فيما علمت ؟
قال : كنت أقوم به آناء الليل وأناء النهار فيقول الله تعالى : كذبت وتقول الملائكة : كذبت ويقول الله : بل أردت أن يقال فلان قارىء، وقد قيل، ويؤتى بصاحب المال فيقول الله : ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد ؟
قال :
٢٠٤
بلى يا رب قال : فماذا عملت فيما آتيتك ؟
قال : كنت أصل الرحم وأتصدّق فيقول الله : كذبت وتقول الملائكة : كذبت ويقول الله : بل أردت أن يقال : فلان جواد، وقد قيل، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له : فيماذا قتلت ؟
فيقول : يا رب أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول الله : كذبت وتقول الملائكة : كذبت ويقول الله : بل أردت أن يقال : فلان جريء، وقد قيل، ثم ضرب رسول الله ﷺ ركبتي فقال : يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أوّل خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة".
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٠٠
وا لا يهدي القوم الكافرين﴾
إلى الخير والرشاد وفيه تعريض بأنّ الرياء والمنّ والأذى على الإنفاق صفة الكفار ولا بد أن تجتنبوا عنها.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٠٠
﴿ومثل﴾ نفقات ﴿الذين ينفقون أموالهم ابتغاء﴾ أي : طلب ﴿مرضاة الله﴾ أي : رضاه ﴿وتثبيتاً من أنفسهم﴾ أي : تثبيتاً بالنظر في إصلاح العمل وإخلاصه بالحمل على الحلم، والصبر على جميع مشاق التكاليف، فإن من راض نفسه يحملها على بذل المال، الذي هو شقيق الروح، فإن بذله أشق شيء على النفس ؛ لأن النفس إذا رضيت بالتحامل عليها وتكاليفها بما يصعب عليها ذلت خاضعة لصاحبها، وقلّ طعمها في اتباعه لشهواتها فيسهل عليه حملها على سائر العبادات، ومتى تركها وهي مطبوعة على النقائص زاد طَعَمُها في اتباع الشهوات، فمن للتبعيض مفعول به مثلها في قوله : هز من عطفه وحرك من نشاطه.
فإن قيل : ما معنى التبعيض ؟
أجيب : بأنّ معناه إنّ من بذل ماله لوجه الله تعالى فقد ثبت بعض نفسه، ومن بذل ماله وروحه فهو الذي ثبتها كلها أو تصديقاً للإسلام وتحقيقاً للجزاء من أصل أنفسهم، لأنه إذا أنفق المسلم ماله في سبيل الله تعالى علم أن تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه، ومن إخلاص قلبه، فمن على هذا لابتداء الغاية كقوله تعالى :﴿حسداً من عند أنفسهم﴾ ﴿كمثل جنة﴾ أي : بستان ﴿بربوة﴾ وهي المكان المرتفع الذي تجري فيه الأنهار، فلا يعلوه الماء ولا يعلو هو على الماء، وإنما جعلها بربوة، لأنّ النبات عليها أحسن وأزكى، وقرأ ابن عامر وعاصم بفتح الراء والباقون بضمها ﴿أصابها وابل﴾ أي : مطر شديد كثير.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٠٥
فأتت﴾
أي : أعطت ﴿أكلها﴾ أي : ثمرتها، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بسكون الكاف، والباقون بضمها ﴿ضعفين﴾ أي : مثلي ما يثمر غيرها بسبب الوابل والمراد بالضعف المثل وقيل : أربعة أمثاله، لأنّ الضعف قدر الشيء ومثله معه، فيكون الضعفان أربعة واستظهره البقاعي، وقال أبو حيان : يحتمل أنها للتكثير أي : ضعفاً بعد ضعف أي : أضعافاً كثيرة، لأنّ النفقة لا تضاعف بحسنة فقط، بل بعشر وسبعمائة وأزيد، ونصبه على الحال أي : مضاعفاً.


الصفحة التالية
Icon