﴿فإن لم يصبها وابل فطل﴾ أي : مطر خفيف يصيبها ويكفيها لارتفاعها، والمعنى تثمر وتزكو كثر المطر أو قل، فكذلك نفقات من ذكر تزكو عند الله كثرت أو قلت ﴿وا بما تعملون بصير﴾ فيجازيكم به ففيه وعد ووعيد.
﴿أيودّ أحدكم﴾ أي : أيحب حباً شديداً ﴿أن تكون له جنة﴾ أي : بستان ﴿من نخيل﴾ جمع نخلة، وهي الشجرة القائمة على ساق، ثمرها من أعلاها في كلها نفع حتى في خشبها مثلها كمثل
٢٠٥
المؤمن الذي ينتفع به كله ﴿وأعناب﴾ جمع عنب وهو شجر الكرم لا يختص ثمره بجهة العلو اختصاص النخلة، بل يتفرّع علواً وسفلاً ويمنة ويسرة، مثله كمثل المؤمن المتّقي الذي يكرم بتقواه في كل جهة.
ولما كانت الجنان لا تقوم ولا تدوم إلا بالماء قال تعالى :﴿تجري من تحتها الأنهار﴾ أي : من تحت هذه الأشجار ﴿له فيها﴾ أي : الجنة ثمر مع ثمر النخل والعنب ﴿من كل الثمرات﴾ فهي محتوية على سائر أنواع الأشجار، وإنما خص النخل والعنب بالذكر لشرفهما وكثرة منافعهما وحسن منظرهما ﴿وأصابه﴾ أي : والحال أنه أصابه ﴿الكبر﴾ أي : كبر السنّ فصار لا يقدر على اكتساب. ﴿وله ذرية ضعفاء﴾ بالصغر كما ضعف هو بالكبر ﴿فأصابها﴾ أي : الجنة ﴿إعصار﴾ وهو الريح العاصف الذي يرتفع إلى السماء كأنها عمود، وتسميها العامة الزوبعة وجمعه أعاصر، والإعصار من بين سائر الرياح مذكر، ولهذا رجع إليه الضمير مذكراً في قوله :﴿فيه نار فاحترقت﴾ تلك الجنة ففقدها أحوج ما كان إليها، وبقي هو وأولاده عجزة متحيرين لا حيلة لهم.
وهذا مثل ضربه الله تعالى لعمل المنافق والمرائي يقول عمله في حسنه كحسن الجنة ينتفع به كما ينتفع صاحب الجنة بها فإذا كبر وضعف وصار له أولاد ضعفاء صغار أصاب جنة إعصار فيه نار فاحترقت أحوج ما يكون إليها، وضعف عن إصلاحها لكبره، وضعفت أولاده عن إصلاحها، ولم يجد هو ما يعود به على أولاده ولا أولاده، ما يعودون به عليه، فبقوا جميعاً متحيرين عجزة لا حيلة لهم، كذلك يبطل الله تعالى عمل المنافق والمرائي في الآخرة، حين لا مغيث لهما ولا توبة ولا إقالة، والاستفهام بمعنى النفي.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٠٥
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ضرب لرجل عمل بالطاعات، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله.
﴿كذلك﴾ أي : مثل هذا البيان ﴿يبين الله﴾ أي : الذي له الكمال كله ﴿لكم الآيات لعلكم﴾ أي : لكي ﴿تتفكرون﴾ فيها فتعتبرون بها.
ولما ذكر سبحانه وتعالى أن الإنفاق على قسمين وبين كل قسم وضرب له مثلاً ذكر كيفية الانفاق بقوله تعالى :
﴿يأيها الذين آمنوا أنفقوا﴾ أي : زكوا ﴿من طيبات﴾ أي : جياد ﴿ما كسبتم﴾ من المال والتجارة والصناعة، وفيه دلالة على إباحة الكسب، وأنه ينقسم إلى طيب وخبيث. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : قال رسول الله ﷺ "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإنّ ولده من كسبه" وقال ﷺ "ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده" وكان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده.
والزكاة واجبة في مال التجارة فبعد الحول تقوم العروض، فيخرج من قيمتها عشرين ديناراً، أو مائتي درهم فضة فيزكيها، قال سمرة بن جندب :"كان رسول الله ﷺ يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي يعدّ للبيع".
٢٠٦
﴿ومما﴾ أي : ومن طيبات ما ﴿أخرجنا لكم من الأرض﴾ من الحبوب والثمار والمعادن فحذف المضاف وهو طيبات من الثاني لتقدّم ذكره. وفي هذا أمر بإخراج العشر من الثمار والحبوب، واتفق أهل العلم على إيجاب العشر في النخيل والكروم وفيما يقتات من الحبوب إن كان مسقياً بماء السماء، أو من نهر يجري الماء فيه من غير مؤنة، وإن كان مسقياً بساقية أو نضح ففيه نصف العشر، لقوله ﷺ "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر، وفيما يسقي بالنضح نصف العشر" وعنه :"ليس في حب ولا ثمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق" وقال قوم الآية في صدقة التطوع قال ﷺ "ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كانت له صدقة".
﴿ولا تيمموا﴾ أي : لا تقصدوا ﴿الخبيث﴾ أي : الرديء ﴿منه﴾ أي : المذكور ﴿تنفقون﴾ في الزكاة حال من ضمير تيمموا ﴿ولستم بآخذيه﴾ أي : الخبيث ﴿إلا أن تغمضوا﴾ أي : تسامحوا ﴿فيه﴾ بالحياء مع الكراهة مجاز من أغمض بصره إذا غضه.
وروي عن البراء قال : لو أهدي ذلك لكم ما أخذتموه إلا على استحياء من صاحبه وغيظ، فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم ؟
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كانوا يتصدّقون بحشف التمر وشواره فنهوا عن ذلك، هذا إذا كان المال كله أو بعضه جيداً فإن كان كل ماله ردياً فلا بأس بإعطاء الرديء ﴿واعلموا أنّ الله غنيّ﴾ عن إنفاقكم وإنما يأمركم به لانتفاعكم ﴿حميد﴾ أي : يجازي المحسن أفضل الجزاء على أنه لم يزل محموداً ولا يزال عذب أو أثاب.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٠٥


الصفحة التالية
Icon