وإن تخفوها} أي : تسروها ﴿وتؤتوها الفقراء﴾ أي : تعطوها لهم في السر ﴿فهو خير لكم﴾ أي : أفضل من إبدائها وإيتاؤها للفقراء أفضل من إيتائها للأغنياء. سئل ﷺ هل صدقة السر أفضل أم صدقة العلانية ؟
فنزلت هذه الآية، وفي الحديث :"صدقة السر تطفىء غضب الرب" وقال ﷺ "سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله تعالى، ورجل قلبه متعلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله تعالى فاجتمعا على ذلك وتفرّقا، ورجل ذكر الله تعالى خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال : إني أخاف الله تعالى، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" نعم إن كان ممن يقتدى به فالإظهار في حقه أفضل، أما صدقة الفرض فالأفضل إظهارها، كالصلاة المكتوبة في الجماعة أفضل والنافلة في البيت أفضل وليقتدى به، لئلا يتهم ولا يجوز دفع شيء منها للأغنياء. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما :"صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفاً، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاً".
تنبيه : الصدقة تطلق على الفرض والنفل قال تعالى :﴿خذ من أموالهم صدقة تطهرهم﴾ (هود، ١٠٣) وقال عليه الصلاة والسلام :"نفقة المرء على عياله صدقة" والزكاة لا تطلق إلا على الفرض" ﴿ونكفّر عنكم من سيآتكم﴾ أي : بعضها وقيل : من صلة، وقرأ ابن عامر وحفص بالياء
٢٠٩
التحتية، والباقون بالنون. وقرأ نافع وحمزة والكسائي بجزم الراء بالعطف على محل فهو، والباقون بالرفع على الاستئناف.
وقوله تعالى :﴿وا بما تعملون خبير﴾ فيه ترغيب في الإسرار لأنه عالم بباطن الشيء كظاهره ولا يخفى عليه شيء منه.
ولما منع النبيّ ﷺ المسلمين من التصدّق على فقراء المشركين، كي تحملهم الحاجة ليسلموا نزل :
﴿ليس عليك هداهم﴾ أي : لا يجب عليك أن تجعل الناس مهديين فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها، وإنما عليك الإرشاد والحث على المحاسن والنهي عن القبائح كالمن والأذى وإنفاق الخبيث.
وقوله تعالى :﴿ولكن الله يهدي من يشاء﴾ أي : هداية التوفيق صريح بأنّ الهداية من الله وبمشيئته وإنما تخص بقوم دون قوم، أما هدى البيان فكان على رسول الله ﷺ فأعطوهم بعد نزول الآية ﴿وما تنفقوا من خير﴾ أي : من مال.
وقوله تعالى :﴿فلأنفسكم﴾ خبر لمبتدأ محذوف أي : فهي لأنفسكم ؛ لأنّ ثوابه لها فلا تمنوا به على غيركم ولا تؤذوهم بالتطاول عليهم ولا تنفقوا الخبيث.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٠٨
وقوله تعالى :﴿وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله﴾ عطف على ما قبله أي : وليس نفقتكم إلا ابتغاء وجه الله، ولطلب ما عنده، فما لكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يوجه مثله إلى الله تعالى ﴿وما تنفقوا من خير يوف إليكم﴾ ثوابه أضعافاً مضاعفة، فلا عذر لكم في أن ترغبوا على إنفاقه وأن يكون على أحسن الوجوه وأجلها، والجملتان تأكيد للأولى وهي وما تنفقوا من خير فلأنفسكم أو ما يخلف المنفق استجابه لقوله ﷺ "اللهمّ اجعل لمنفق خلفاً ولممسك تلفاً" رواه البخاري.
﴿وأنتم لا تظلمون﴾ أي : لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئاً تفضلاً من الله تعالى عليكم، وهذا في صدقة التطوّع أباح الله تعالى أن توضع في أهل الإسلام وأهل الذمة وقيل : حجت أسماء بنت أبي بكر فأتتها أمها تسألها وهي مشركة فأبت أن تعطيها فنزلت.
وروى النسائي والحاكم أنّ ناساً من المسلمين كانت لهم أصهار في اليهود ورضاع، وقد كانوا ينفقون عليهم قبل الإسلام فلما أسلموا كرهوا أن ينفقوا عليهم فنزلت. وعن بعض العلماء : لو كان المنفق عليه أشر خلق الله كان لك ثواب نفقتك. وأمّا الصدقة المفروضة فلا يجوز وضعها إلا في المسلمين أهل السهمان المذكورين في سورة التوبة، لكن جوّز أبو حنيفة رحمه الله صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة.
وقوله تعالى :
﴿للفقراء﴾ خبر مبتدأ محذوف أي : صدقاتكم للفقراء أو متعلق بفعل مقدر كاجعلوا ما تنفقون للفقراء ﴿الذين أحصروا في سبيل الله﴾ أي : حبسوا أنفسهم على الجهاد وهم فقراء المهاجرين، كانوا نحواً من أربعمائة لم يكن لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر، كانوا يسكنون صفّة المسجد، يستغرقون أوقاتهم بالتعلم والعبادة، وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله ﷺ وهم المشهورون بأصحاب الصّفّة، فحث الله عليهم الناس فكان من عنده فضل أتاهم به إذا أمسى.
٢١٠
﴿لا يستطيعون ضرباً﴾ أي : سفراً ﴿في الأرض﴾ للتجارة والمعاش لشغلهم عنه بالجهاد ﴿يحسبهم الجاهل﴾ بحالهم ﴿أغنياء من التعفف﴾ أي : لأجل تعففهم عن السؤال.


الصفحة التالية
Icon