وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين، والباقون بكسرها ﴿تعرفهم﴾ أيها المخاطب ﴿بسيماهم﴾ أي : بعلامتهم من التخشع والتواضع، وصفرة الوجوه، ورثاثة الحالة ﴿لا يسألون الناس﴾ شيئاً فيلحفون ﴿إلحافاً﴾ أي : لا سؤال لهم أصلاً فلا يقع منهم إلحاف ومثل ذلك قول الشاعر :
*لا يفزع الأرنب أهوالها ** ولا ترى الضب بها ينجحر*
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٠٨
أي : ليس فيها أرنب فيفزع لهولها ولا ضب فينجحر، وليس المعنى أنه ينفي الفزع عن الأرنب والانجحار عن الضب والإلحاف الإلحاح، وهو اللزوم وأن لا يفارق إلا بشيء يعطاه من قولهم : لحفني من فضل لحافه، أي : أعطاني من فضل ما عنده وقيل : إنهم إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحفوا. قال النبيّ ﷺ "إن الله يحب الحييّ الحليم المتعفف ويبغض البذي السآل الملحف"، وقال ﷺ "لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيكف بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أشياءهم أعطوه أو منعوه" وقال ﷺ "من سأل وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خدوش" قيل : يا رسول الله وما يغنيه ؟
قال :"خمسون درهماً أو قيمتها" ﴿وما ينفقوا من خير﴾ أي : مال ﴿فإنّ الله به عليم﴾ فيجازيكم وفي هذا ترغيب في الإنفاق.
﴿الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار وسراً وعلانية﴾ أي : يعمّون الأوقات والأحوال بالصدقة لحرصهم على الخير. نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه : تصدّق بأربعين ألف دينار، عشرة بالليل، وعشرة بالنهار، وعشرة بالسر، وعشرة بالعلانية. وفي علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : كانت عنده أربعة دراهم لا يملك غيرها، فتصدّق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً وبدرهم سراً وبدرهم علانية. وقال الأوزاعي : نزلت في الذين يربطون الخيل للجهاد فإنها تعلف ليلاً ونهاراً سراً وعلانية.
روي أنه ﷺ قال :"من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة" وقوله تعالى :﴿فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ خبر الذين ينفقون والفاء للسببية.
فإن قيل : أيّ فرق بين قوله هنا ﴿فلهم أجرهم﴾ (البقرة، ٢٧٤) وفيما مرّ ﴿لهم أجرهم﴾ (البقرة، ٢٦٢) ؟
أجيب : بأنّ الموصول ثم لم يضمن معنى الشرط وضمنه هنا.
٢١١
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٠٨
أي : يأخذونه وهو لغة الزيادة وشرعاً عقد على عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد أو مع تأخير في البدلين أو أحدهما وهو ثلاثة أنواع : ربا الفضل وهو البيع مع زيادة أحد العوضين على الآخر وربا اليد وهو البيع مع تأخير قبضهما أو قبض أحدهما، وربا النساء وهو البيع إلى أجل وإنما ذكر الأكل ؛ لأنه أعظم منافع المال كقوله تعالى :﴿إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً﴾ (النساء، ١٠) فنبه بالأكل على ما سواه من وجوه الإتلافات ؛ ولأنّ نفس الربا الذي هو الزيادة لا يؤكل وإنما يصرف في المأكول وقال ﷺ "لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه والمحلل له" فعلمنا أنّ الحرمة غير مختصة بالأكل.
ولما كان بين الصدقة والربا مناسبة من جهة التضادّ ؛ لأنّ الصدقة عبارة عن تنقيص المال بأمر الله بذلك والربا عبارة عن طلب الزيادة على المال مع نهي الله عنه فكانا كالمتضادين ذكر عقب الصدقة ويرسم بالواو والألف بعد الواو وإنما رسم على لغة من يفخم وهو يميل الألف أي يخرج الواو كما كتبت الصلاة والزكاة. وقيل : لأنّ أهل الحجاز تعلموا الخط من أهل الحيرة ولغتهم الربو بالواو الساكنة، فعلموهم الخط على لغتهم وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع ﴿لا يقومون﴾ إذا بعثوا من قبورهم ﴿إلا﴾ أي : قياماً ﴿كما يقوم الذي يتخبطه﴾ أي : يصرعه ﴿الشيطان﴾ وقوله تعالى :﴿من المس﴾ أي : الجنون متعلق بتخبطه من جهة الجنون فيكون في موضع نصب قاله أبو البقاء : والمعنى أنّ آكل الربا يبعث يوم القيامة وهو كالمصروع تلك سيماه يعرف بها عند أهل الموقف.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢١٢
فإن قيل : لم نسب هذا للشيطان ؟
أجيب : بأنه وارد على ما تزعم العرب أنّ الشيطان يتخبط الإنسان فيصرع والخبط الضرب على غير استواء يقال : ناقة خبوط للتي تطأ الناس وتضرب الأرض بقوائمها ويقال للرجل الذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه إنه يخبط خبط عشواء وتخبطه الشيطان إذا مسه بخبل أو جنون ؛ لأنه كالضرب على غير استواء في الإدهاش ﴿ذلك﴾ أي : الذي نزل بهم ﴿بأنهم﴾ أي : بسبب أنهم ﴿قالوا إنما البيع مثل الربوا﴾ في الجواز.