فإن قيل : ما الحكمة في قلب القصة ومن حق القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق ؛ لأنّ حل البيع متفق عليه وهم أرادوا قياس الربا عليه فكان نظم الكلام أن يقال إنما الربا مثل البيع ؟
أجيب : بأنّ هذا من عكس التشبيه مبالغة إذ به صار المشبه مشبهاً به وبالعكس وشأن المشبه به أن يكون أقوى من المشبه أو بأنهم لم يكن مقصودهم أن يتمسكوا بنظم القياس بل كان غرضهم أنّ البيع والربا متماثلان في جميع الوجوه المطلوبة فكيف يجوز تخصيص أحد المثلين بالحل والآخر بالحرمة وعلى هذا التقدير فأيهما قدم أو أخر جاز وقوله تعالى :﴿وأحل الله البيع وحرّم الربوا﴾ إنكار لتسويتهم وإبطال القياس لمعارضته النص.
تنبيه : أظهر قولي الشافعيّ أنّ هذه الآية عامّة في كل بيع إلا ما خص بالسنة وأنه ﷺ نهى عن بيوع، والثاني إنها مجملة والسنة مبينة لها أو تظهر فائدة الخلاف في الاستدلال بها في مسائل الخلاف فعلى الأوّل يستدل بها وعلى الثاني لا يستدل ﴿فمن جاءه﴾ أي : بلغه ﴿موعظة﴾ أي : وعظ ﴿من ربه﴾ وزجر بالنهي عن الربا ﴿فانتهى﴾ أي : فاتبع النهي وامتنع
٢١٢
من أكله ﴿فله ما سلف﴾ أي : ما مضى قبل النهي فلا يستردّ منه ما أخذه من الربا وقيل : ما مضى من ذنبه قبل النهي مغفور له ﴿وأمره إلى الله﴾ بعد النهي إن شاء عصمه حتى يثبت على الإنتهاء وإن شاء خذله حتى يعود. وقيل : أمره إلى الله فيما يأمره وينهاه ويحل له ويحرم عليه وليس له من أمر نفسه شيء ﴿ومن عاد﴾ إلى تحليل الربا مشبهاً له بالبيع في الحل ﴿فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾ لأنهم كفروا بذلك وورد أنه ﷺ لعن آكل الربا ومؤكله والواشمة والمستوشمة والمصوّر وأنه ﷺ قال :"الربا سبعون باباً أهونها عند الله عز وجل كالذي ينكح أمّه".
﴿يمحق الله الربوا﴾ أي : يذهب بركته ويهلك المال الذي يدخل فيه. وعن ابن مسعود الربا وإن كثر فإلى قل ﴿ويربي الصدقات﴾ أي : يضاعف ثوابها ويبارك فيما أخرجت منه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢١٢
روى الشيخان أنه ﷺ قال :"إنّ الله تعالى يقبل الصدقة ويربيها كما يربي أحدكم فلوه".
وروى الإمام أحمد :"ما نقص مال من صدقة" ﴿وا لا يحب كل كفار﴾ أي : مصرّ على تحليل المحرّمات كمن يحلّل الربا ﴿أثيم﴾ منهمك في ارتكابه.
﴿إنّ الذين آمنوا﴾ بالله وبرسوله ربما جاء لهم عنه ﴿وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة﴾ وإنما عطفهما على ما يعمهما لشرفهما ﴿لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم﴾ من آت ﴿ولا هم يحزنون﴾ على فائت وتقدّم مثل هذه الآية ولكن جرت عادة الله سبحانه وتعالى في القرآن مهما ذكر وعيداً ذكر بعده وعداً، فلما بالغ هنا في وعيد الربا أتبعه بهذا الوعد.
فإن قيل : إن الإنسان إذا بلغ عارفاً بالله وقبل وجوب الصلاة والزكاة عليه مات فهو من أهل الثواب بالاتفاق، فدل على أن استحقاق الثواب لا يتوقف على حصول العمل أجيب : بأنه تعالى إنما ذكر هذه الخصال لا لأجل أن استحقاق الثواب مشروط بهذا بل لأجل أن لكل منهما أثراً في جلب الثواب كما قال تعالى في ضد هذا ﴿والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر﴾ (الفرقان، ٦٨) ثم قال تعالى :﴿ومن يفعل ذلك يلق أثاماً﴾ ومعلوم أنّ من ادعى أنّ مع الله إلهاً آخر لا يحتاج في استحقاقه العذاب إلى عمل آخر وإنما جمع الله تعالى الزنا وقتل النفس مع دعاء غير الله تعالى إلهاً لبيان أنّ كل واحد من هذه الخصال يوجب العقوبة.
﴿يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربوا﴾ أي : اتركوا بقايا ما شرطتم على الناس من الربا الذي أخذتم بعضه قبل التحريم ﴿إن كنتم مؤمنين﴾ أي : بقلوبكم أو إن بمعنى إذ فإنّ دليل الإيمان امتثال ما أمرتم به. روي أنها نزلت لما طالب بعض الصحابة بعد النهي بربا كان له قبل.
﴿فإن لم تفعلوا﴾ أي : تذروا ما بقي من الربا ﴿فائذنوا﴾ أي : اعلموا، من أذن بالشيء إذا علم به أي : فاعلموا أنتم وأيقنوا ﴿بحرب من الله ورسوله﴾ لكم.
فإن قيل : هذا حكمهم إن تابوا، فما حكمهم إن لم يتوبوا ؟
أجيب : بأنّ مقتضى ذلك أنهم يقاتلون إن لم يرجعوا قال سعيد بن جبير : عن ابن عباس يقال لآكل الربا يوم القيامة : خذ سلاحك
٢١٣
للحرب، قال أهل المعاني : حرب الله تعالى النار وحرب رسوله ﷺ السيف. وقرأ شعبة وحمزة فآذنوا بفتح الهمزة ومدّها وكسر الذال أي : فأعلموا بها غيركم وهو من الإذن وهو الاستماع لأنه من طريق العلم والباقون بسكون الهمزة وفتح الذال ﴿وإن تبتم﴾ أي : تركتم استحلال الربا ورجعتم عنه ﴿فلكم رؤس أموالكم لا تظلمون﴾ بطلب الزيادة ﴿ولا تظلمون﴾ بالنقصان عن رأس المال.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢١٢
فإن قيل : هلا قال تعالى بحرب الله ورسوله ؟
أجيب : بأنّ هذا أبلغ ؛ لأنّ المعنى فأذنوا بنوع من الحرب عظيم من عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم