فإن قيل : المآب قسمان : الجنة وهي في غاية الحسن والنار وهي خالية عن الحسن كما قال تعالى :﴿إنّ جهنم كانت مرصاداً للطاغين مآباً﴾ (النبأ، ٢١) أجيب : بأنّ المقصود بالذات هو الجنة، وأمّا النار فمقصودة بالعرض والمقصود بالآية الترهيب في الدنيا والترغيب في الآخرة.
﴿قل﴾ يا محمد لقومك ﴿أؤنبئكم﴾ أأخبركم ﴿بخير من ذلكم﴾ أي : المذكور من الشهوات وهذا استفهام تقريري.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٢٩
تنبيه : هنا همزتان مختلفتان من كلمة : الأولى مفتوحة والثانية مضمومة، قرأ قالون بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية وأدخل بينهما ألفاً وورش يسهل الثانية من غير إدخال ألف وينقل حركة الهمزة الأولى إلى اللام من قل فتصير اللام مفتوحة والثانية مضمومة، وابن كثير كورش إلا أنه لا ينقل الحركة إلا في لفظ القرآن وقرآن، وأبو عمرو يسهل الثانية ويدخل بينهما ألفاً كقالون وله وجه آخر وهو عدم إدخال ألف بينهما، والباقون بتحقيقهما وقوله تعالى :﴿للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها﴾ أي : مقدّرين الخلود فيها إذا دخلوها كلام مستأنف فيه دلالة على بيان ما هو خير من ذلكم كما تقول : هل أدلك على رجل عالم عندي رجل عالم من صفته كيت وكيت ويجوز أن تتعلق اللام بخير وترتفع جنات على هو جنات ﴿وأزواج مطهرة﴾ من الحيض وغيره مما يستقذر من النساء وقوله تعالى :﴿ورضوان من الله﴾ قرأه شعبة بضم الراء، والباقون بكسرها وهما لغتان : الكسر لغة الحجاز والضم لغة تميم. وقيل : بالكسر اسم وبالضم مصدر وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله ﷺ "إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير، في يديك فيقول : هل رضيتم ؟
فيقولون : ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟
فيقولون : يا ربنا وأي شيء أفضل من ذلك ؟
فيقول : أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً".
تنبيه : قد نبه سبحانه وتعالى في هذه الآية على نعمه فأدناها متاع الحياة الدنيا وأعلاها رضوان الله لقوله تعالى :﴿ورضوان من الله أكبر﴾ (التوبة، ٧٢) وأوسطها الجنة ونعيمها ﴿وا بصير﴾ أي : عالم ﴿بالعباد﴾ أي : بأعمالهم فيجازي كلاً منهم بعمله أو بأحوال الذين اتقوا فلذلك أعدّ لهم جنات وقوله تعالى :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٢٩
٢٣٢
﴿الذين﴾ نعت للذين اتقوا أو للعباد أو بدل من الذين قبله ﴿يقولون﴾ يا ﴿ربنا إننا آمنا﴾ أي : صدّقنا ﴿فاغفر لنا ذنوبنا﴾ أي : استرها علينا وتجاوز عنا ﴿وقنا عذاب النار﴾.
تنبيه : في ترتيب سؤال المغفرة وما عطف عليها وسيلة على مجرّد الإيمان دليل على أنّ مجرّد الإيمان كاف في استحقاق المغفرة والإستعداد لأسبابها وأسباب ما عطف عليها وقوله تعالى :﴿الصابرين﴾ أي : على الطاعة وعن المعصية وعلى البأساء والضرّاء نعت ﴿والصادقين﴾ أي : في إيمانهم وأقوالهم قال قتادة : هم قوم صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وألسنتهم فصدقوا في السرّ والعلانية ﴿والقانتين﴾ أي : المطيعين لله ﴿والمنفقين﴾ أي : المتصدّقين ﴿والمستغفرين بالأسحار﴾ أي : أواخر الليل كأن يقولوا : اللهمّ اغفر لنا خصت بالذكر ؛ لأنها وقت الغفلة ولذة النوم، وفي هذا كما قال البيضاوي : حصر لمقامات السالك على أحسن الترتيب أي : الذكرى فإنّ معاملته مع الله إمّا توسل وإمّا طلب، والتوسل إمّا بالنفس وهو منعها عن الرذائل وحبسها على الفضائل والصبر يشملهما، وإمّا بالبدن وهو إمّا قولي وهو الصدق وإمّا فعلي وهو القنوت الذي هو ملازمة الطاعة، وإمّا بالمال وهو الإنفاق في سبيل الخير وإمّا الطلب فالاستغفار ؛ لأنّ المغفرة أعظم المطالب بل الجامع لها انتهى.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٣٢
وتوسيط الواو بين الصابرين وما بعده للدلالة على استقلال كل واحد منها وكما لهم فيها أو لتغاير الموصوفين بالصفات. وتخصيص الأسحار ؛ لأن الدعاء فيها أقرب من الدعاء في غيرها إلى الإجابة ؛ لأنّ العبادة حينئذٍ أشق والنفس أصفى والعقل أجمع لمعاني الألفاظ التي ينطق بها لا سيما للمتهجد قيل : إنهم كانوا يصلون إلى السحر ثم يستغفرون ويدعون، وعن الحسن كانوا يصلون في أوّل الليل حتى إذا كان السحر أخذوا في الدعاء والإستغفار فذا نهارهم وهذا ليلهم. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله ﷺ قال :"ينزل الله إلى سماء الدنيا ـ أي : أمره ـ كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول : أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له
٢٣٣
من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له".