جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٣٢
﴿ألم تر﴾ أي : تنظر ﴿إلى الذين أوتوا نصيباً﴾ أي : حظاً ﴿من الكتاب﴾ أي : التوراة أو جنس الكتب السماوية ومن للتبعيض أو البيان، قال البيضاوي : وتنكير النصيب يحتمل التعظيم والتحقير انتهى. أمّا التعظيم فظاهر وهو ما اقتصر عليه الزمخشريّ، وأمّا التحقير ففيه نظر إذ النصيب المراد به الكتاب أو بعضه لا حقارة فيه وقد يقال : إن تحقيره بالنسبة إليهم حيث لم يعملوا به ﴿يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم﴾ الداعي هو محمد ﷺ وكتاب الله القرآن أو التوراة واختلفوا في سبب نزول هذه الآية، فروى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال :"دخل رسول الله ﷺ بيت المدراس ـ أي : موضع صاحب دراسة كتبهم ـ على جماعة من اليهود فدعاهم إلى الله عز وجل فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد : على أي دين أنت ؟
قال : دين إبراهيم فقالا له : إن إبراهيم كان يهودياً، فقال رسول الله ﷺ فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا عليه فأنزل الله عز وجل هذه الآية".
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٣٦
وروى الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما "أنّ رجلاً وامرأة من أهل خيبر زنيا وكان في كتابهم الرجم فكرهوا رجمهما لشرفهما فيهم فرفعوا أمرهما إلى النبيّ ﷺ ورجوا أن تكون عنده رخصة فحكم عليهما بالرجم، فقال له النعمان بن أوفى وعديّ بن عمرو : جرت علينا يا محمد ليس عليهما الرجم، فقال رسول الله ﷺ "بيني وبينكم التوراة" قالوا : قد أنصفتنا قال :"فمن أعلمكم بالتوراة ؟
" قالوا : رجل يقال له عبد الله بن صوريا فأرسلوا إليه فدعا رسول الله
٢٣٦
صلى الله عليه وسلم بشيء من التوراة فيها الرجم مكتوب فقال له : اقرأ فلما أتى على آية الرجم وضع كفه عليها وقرأ ما بعدها على رسول الله ﷺ فقال له ابن سلام : يا رسول الله قد جاوزها وقام فرفع كفه عنها ثم قرأ على رسول الله ﷺ وعلى اليهود أن المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة رجماً، وإن كانت حبلى تتربص حتى تضع ما في بطنها، فأمر رسول الله ﷺ باليهوديين فرجما فغضب اليهود وانصرفوا فأنزل الله عز وجل هذه الآية ﴿ثم يتولى فريق منهم﴾" وأتى بثم لاستبعاد توليهم مع علمهم بأن الرجوع إلى كتاب الله تعالى واجب لا للتراخي في الزمان إذ لا تراخي فيه. وقوله تعالى :﴿وهم معرضون﴾ أي : عن قبول حكمه جملة حالية من فريق وإنما ساغ لتخصيصه بالصفة.
﴿ذلك﴾ إشارة إلى ما ذكر من التولي والإعراض ﴿بأنهم قالوا﴾ أي : بسبب قولهم ﴿لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات﴾ أي : قالوا ذلك بسبب تسهيلهم أمر العقاب على أنفسهم لهذا الإعتقاد المائل والطمع الفارغ عن حصول المطموع فيه وهو الخروج من النار بعد أيام قليلة وهي أربعون يوماً مدّة عبادة آبائهم العجل ثم تزول عنهم ﴿وغرّهم في دينهم﴾ والغرور هو الإطماع فيما لا يحصل منه شيء ﴿ما كانوا يفترون﴾ أي : من أن النار لن تمسهم إلا أياماً قلائل أو أن آبائهم الأنبياء يشفعون لهم، أو أنه تعالى وعد يعقوب أن لا يعذب أولاده إلا تحلة القسم.
تنبيه : في دينهم متعلق بغرّهم ولا يصح تعلقه بيفترون خلافاً للسيوطي ؛ لأن ما قبل الموصول لا يتعلق بما بعده.
﴿فكيف﴾ حالهم أو فكيف صنعهم ﴿إذا جمعناهم ليوم﴾ أي : في يوم ﴿لا ريب﴾ أي : لا شك ﴿فيه﴾ وهو يوم القيامة وفي ذلك استعظام لما يحيق بهم في الآخرة.
روي أن أوّل راية أي : علم ترفع يوم القيامة من رايات الكفار راية اليهود فيفضحهم الله تعالى على رؤوس الأشهاد ثم يؤمر بهم إلى النار ﴿ووفيت كل نفس﴾ أي : من أهل الكتاب وغيرهم جزاء ﴿ما كسبت﴾ أي : عملت من خير أو شر وفي ذلك دليل على أن العبادة لا تحبط وأن المؤمن لا يخلد في النار وإن دخلها ؛ لأن توفية إيمانه وعمله لا يكون في النار ولا قبل دخولها فإذا هي بعد الخلاص إن دخلها ؛ ﴿وهم لا يظلمون﴾ أي : بنقص حسنة أو زيادة سيئة.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٣٦
تنبيه : ذكر ضمير وهم لا يظلمون وجمعه باعتبار معنى كل نفس ؛ لأنه في معنى كل إنسان، ولما فتح النبيّ ﷺ مكة ووعد أمته ملك فارس والروم، قال المنافقون واليهود : هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم أولم يكف محمداً مكة والمدينة حتى يطمع في ملك فارس والروم فأنزل الله سبحانه وتعالى.