ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار} أي : بمال كثير ﴿يؤدّه إليك﴾ كعبد الله بن سلام استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية ذهباً فأدّاه إليه ﴿ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك﴾ كفنحاص بن عازوراء استودعه رجل آخر من قريش ديناراً فجحده ﴿إلا ما دمت عليه قائماً﴾ أي : إلا إن أودعته واسترجعته منه وأنت قائم على رأسه لم تفارقه ردّه إليك وإن فارقته وأخرته نكل ولم يردّه، وقيل : المأمون على الكثير النصارى لغلبة الأمانة عليهم، والخائنون في القليل اليهود لغلبة الخيانة عليهم، وقرأ حمزة وأبو عمرو وشعبة يؤدّه ولا يؤدّه إليك بإسكان الهاء فهو وصل بنية الوقف فهو سكون وقف بالنية لا بالفعل وقالون باختلاس حركة الهاء، وحفص والكسائي بالحركة الكاملة والألف في قنطار ودينار بالإمالة لأبي عمرو والدوري عن الكسائي وورش بينَ بين والباقون بالفتح ﴿ذلك﴾ أي : ترك الأداء المدلول عليه بقوله تعالى لا يؤدّه ﴿بأنهم قالوا﴾ أي : بسبب قولهم ﴿ليس علينا في الأمّيين﴾ أي : العرب ﴿سبيل﴾ أي : إثم لاستحلالهم ظلم من خالفهم ونسبوا ذلك إلى الله تعالى قالوا : لن يجعل الله لهم في التوراة حرمة فكذبهم الله عز وجل بقوله عز من قائل ﴿ويقولون على الله الكذب﴾ أي : في نسبة ذلك إليه ﴿وهم يعلمون﴾ أنهم كاذبون وقال الحسن وابن جريج ومقاتل : بايع اليهود رجلاً من المسلمين في الجاهلية، فلما أسلموا تقاضوهم بقية أموالهم فقالوا : ليس لكم علينا حق ولا عندنا قضاء ؛ لأنكم تركتم دينكم وانقطع العهد بيننا وبينكم وادّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم، فكذبهم الله تعالى في ذلك.
روى الطبراني وغيره أنه ﷺ قال عند نزول هذه "كذب أعداء الله ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي" أي : منسوخ متروك إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر أي : والديون من
٢٥٩
الأمانة ؛ لأنّ المراد من الأمانة الرضا بالذمّة وقوله تعالى :
﴿بلى﴾ إثبات لما نفوه أي : بلى على اليهود في الأمّيين سبيل ثم ابتدأ فقال :﴿من أوفى بعهده﴾ أي : ولكن من أوفى بعهد الله الذي عهد إليه في التوراة من الإيمان بمحمد ﷺ والقرآن وأداء الأمانة ﴿واتقى﴾ الله بترك المعاصي وفعل الطاعات ﴿فإن الله يحب المتقين﴾ فيه وضع الظاهر موضع المضمر أي : يحبهم بمعنى يثيبهم.
فإن قيل : فأين الضمير الراجع من الخبر إلى من ؟
أجيب : بأنّ عموم المتقين قام مقام رجوع الضمير.
ونزل في أحبار من اليهود حرفوا التوراة وبدلوا نعت محمد ﷺ وحكم الأمانة وغيرهما وأخذوا على ذلك رشوة.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٥٨
إن الذين يشترون﴾ أي : يستبدلون ﴿بعهد الله﴾ إليهم في الإيمان للنبيّ ﷺ والوفاء بأداء الأمانة ﴿وإيمانهم﴾ أي : حلفهم به تعالى كاذباً من قولهم : والله لنؤمننّ ولننصرنه ﴿ثمناً قليلاً﴾ من الدنيا ﴿أولئك لا خلاق﴾ أي : لا نصيب ﴿لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله﴾ أي : بما يسرّهم أو بشيء أصلاً وأنّ الملائكة يسألونهم يوم القيامة ﴿ولا ينظر إليهم﴾ أي : ولا يرحمهم ﴿يوم القيامة ولا يزكيهم﴾ أي : ولا يثني عليهم بالجميل ولا يطهرهم من الذنوب ﴿ولهم عذاب أليم﴾ أي : مؤلم وقيل : نزلت في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد اشتراها بما لم يشترها به وقيل : نزلت في جماعة من اليهود جاؤوا إلى كعب بن الأشرف في سنة أصابتهم ممتارين فقال لهم : أتعلمون أنّ هذا الرجل رسول الله قالوا : نعم قال : لقد هممت أن أميركم وأكسوكم فحرمكم الله خيراً كثيراً فقالوا : لعله اشتبه علينا فرويداً حتى نلقاه فانطلقوا فكتبوا صفة غير صفته ثم رجعوا إليه وقالوا : لقد غلطنا وليس هو بالنعت الذي نعت لنا ففرح ومارهم، وعن الأشعث بن قيس :"نزلت فيّ كان بيني وبين رجل خصومة في بئر وأرض، فاختصمنا إلى رسول الله ﷺ فقال : شاهداك أو يمينه فقلت : إذا يحلف ولا يبالي فقال : من حلف على يمين يستحق بها مالاً هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان فأنزل الله تصديق ذلك هذه الآية".
وعن أبي ذر رضي الله تعالى عنه عن النبيّ ﷺ قال :"ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم" قال : فقرأها رسول الله ﷺ ثلاث مرّات فقال أبو ذر : خابوا وخسروا من هم يا رسول الله ؟
قال :"المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب" وفي رواية المسبل إزاره، وعن أبي هريرة عن النبيّ ﷺ قال :"ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولهم عذاب أليم رجل حلف على يمين على مال مسلم فاقتطعه، ورجل حلف يميناً بعد صلاة العصر أنه أعطى بسلعته أكثر مما أعطى وهو كاذب ورجل منع فضل ماء، فإنّ الله تعالى يقول :"اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك".
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٥٨
٢٦٠