فإن قيل : لم قدم المنزل عليه على المنزل على سائر الرسل ؟
أجيب : بأنه إنما قدم ؛ لأن المنزل عليه هو المعرّف للمنزل على سائر الرسل، ولأنه أفضل الكتب المنزلة ﴿ونحن له مسلمون﴾ أي : موحدون مخلصون له في العبادة لا نجعل له شريكاً فيها. ونزل فيمن ارتدّ ولحق بالكفار وهم اثنا عشر رجلاً ارتدّوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة وأتوا مكة كفاراً منهم الحارث بن سويد الأنصاري.
﴿ومن يبتغ غير الإسلام ديناً﴾ أي : غير التوحيد والإنقياد لحكم الله فهو مشتمل على الإيمان بهذا التقدير وديناً تمييز مبين للإسلام والدين يشتمل على التصديق والأعمال الصالحة فالإسلام كذلك ؛ لأنّ المبين لا يخالف المبين وعلى هذا حمل الإسلام على الدين في قوله تعالى :﴿إنّ الدين عند الله الإسلام﴾ (آل عمران، ١٩٩) والدين هو الوضع الإلهي السائق لكل خير ﴿فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين﴾ لمصيره إلى النار المؤبدة عليه وقوله تعالى :
﴿كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم﴾ لفظه استفهام ومعناه جحد أي : لا يهديهم الله لما علم من تصميمهم على كفرهم بأنهم كفروا بعد إيمانهم ﴿و﴾ بعدما ﴿شهدوا أن الرسول حق و﴾ قد ﴿جاءهم البينات﴾ أي : الحجج الظاهرة على صدق النبيّ ﷺ ﴿وا لا يهدي القوم الظالمين﴾ أي : الكافرين.
﴿أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين﴾ والمراد بالناس المؤمنون أو العموم، فإن الكافر يلعن منكر الحق والمرتد عنه ولكن لا يعرف الحق بعينه.
تنبيه : دلت هذه الآية بمنطوقها على جواز لعن القوم المذكورين وبمفهومها على نفي جواز لعن غيرهم من الكفار الذين لم يكفروا بعد إيمانهم. قال البيضاوي : ولعلّ الفرق أنهم أي : هؤلاء مطبوعون على الكفر ممنوعون عن الهدي مايوسون عن الرحمة بخلاف غيرهم أي : فلا يلعن الكافر الأصلي المعين حياً ولا ميتاً ما لا يعلم موته على الكفر، وكالأصلي المرتدّ وأمّا لعن الكافر على العموم فيجوز.
﴿خالدين فيها﴾ أي : اللعنة أو النار أو العقوبة المدلول باللعنة عليها ﴿لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون﴾ أي : يمهلون.
﴿إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا﴾ عملهم تصديقاً لتوبتهم ﴿فإنّ الله غفور﴾ لهم يقبل توبتهم ﴿رحيم﴾ بهم يتفضل عليهم وذلك "أنّ الحرث بن سويد لما ارتدّ ولحق بالكفار ندم فأرسل إلى قومه أن سلوا رسول الله ﷺ هل لي من توبة، فأرسل إليه أخوه الجلاس بالآية فأقبل إلى المدينة فتاب وقبل رسول الله ﷺ توبته".
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٦٣
ونزل في اليهود.
﴿إنّ الذين كفروا﴾ بعيسى والإنجيل ﴿بعد إيمانهم﴾ بموسى والتوراة ﴿ثم ازدادوا كفراً﴾ بمحمد ﷺ والقرآن وقيل : كفروا بمحمد بعدما آمنوا به قبل مبعثه ثم ازدادوا كفراً بالإصرار والعناد والطعن فيه والصدّ عن الإيمان ونقض الميثاق ﴿لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون﴾ أي : الثابتون على الضلال.
فإن قيل : قد وعد الله تعالى قبول توبة من تاب فما معنى قوله تعالى :﴿لن تقبل توبتهم﴾ ؟
أجيب : بأنّ محل القبول إذا كان قبل الغرغرة وهؤلاء توبتهم كانت بعدها وإنهم لم يتوبوا أصلاً فكنى عن عدم توبتهم بعدم قبولها أو أنّ توبتهم لا تكون إلا نفاقاً.
﴿إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء﴾ أي : مقدار ما يملؤها من ﴿الأرض﴾ شرقها إلى غربها ﴿ذهباً﴾ تغليظاً في شأنهم وإبراز حالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة.
فإن قيل : لم قال في الآية الأولى لن تقبل بغير فاء وفي هذه بقوله : فلن يقبل بالفاء أجيب : بأن الفاء إنما دخلت في خبر إن لشبه الذين بالشرط وإيذاناً بتسبب امتناع الفدية على الموت على الكفر بخلافه في الآية الأولى لا دليل فيه على السبب كما تقول : الذي جاءني له درهم لم تجعل المجيء سبباً لاستحقاق الدرهم بخلاف قولك : فله درهم ونصب ذهباً على التمييز كقولهم : عشرون درهماً وقوله تعالى :﴿ولو افتدى به﴾ محمول على المعنى كأنه قيل : فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً أو معطوف على مضمر تقديره فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً لو تقرّب به في الدنيا ولو افتدى به من العذاب في الآخرة، ويجوز أن يراد ولو افتدى بمثله كقوله تعالى :﴿ولو أنّ للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه﴾ والمثل يحذف كثيراً في كلامهم كقوله : ضربته ضرب زيد وأبو يوسف أبو حنيفة تريد مثله ﴿أولئك لهم عذاب أليم﴾ أي : مؤلم ﴿وما لهم من ناصرين﴾ أي : مانعين عنهم العذاب ومن مزيدة للإستغراق.
روى أنس عن رسول الله ﷺ قال :"يقول الله لأهون أهل النار عذاباً يوم القيامة : لو أنّ لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به فيقول : نعم فيقول : أردت منك أهون من ذلك وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي".
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٦٣
٢٦٥


الصفحة التالية
Icon