وروي مرفوعاً لما نزلت هذه الآية "قالت الصحابة رضي الله تعالى عنهم : يا رسول الله من يقوى على هذا ؟
فنسخ بقوله تعالى :﴿فاتقوا الله ما استطعتم﴾. وقال مقاتل : ليس في آل عمران منسوخ إلا هذه الآية ﴿ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون﴾ أي : موحدون والمعنى : لا تكونن على حال سوى حالة الإسلام إذا أدرككم الموت، فإنّ النهي عن المقيد بحال أو غيرها قد يتوجه بالذات إلى القيل تارة وإلى المقيد أخرى وإلى المجموع منهما وهو هنا إلى المقيد كما تقول لمن تستعين به على لقاء العدوّ ولا تأتني إلا وأنت على حصان بكسر الحاء فلا تناه عن الإتيان ولكنك تنهاه عن خلاف الحال التي شرطت عليه في وقت الإتيان، فالنهي هما متوجه إلى القيد وحده، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله ﷺ "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته، الآية فلو أنّ قطرة من الزقوم قطرت على الأرض لأمرّت على أهل الدنيا معيشتهم فكيف بمن هو طعامهم وليس لهم طعام غيره".
﴿واعتصموا بحبل الله﴾ أي : بدينه وهو دين الإسلام استعار له الحبل من حيث إنّ التمسك به سبب للنجاة من الردى كما أنّ التمسك بالحبل سبب للسلامة من التردي أو بكتابه وهو القرآن لقوله ﷺ "القرآن حبل الله المتين لا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد من قال به صدق ومن عمل به رشد ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم" وقوله تعالى :﴿جميعاً﴾ حال أي : مجتمعين عليه ﴿ولا تفرقوا﴾ أي : ولا تتفرقوا بعد الإسلام بوقوع الإختلاف بينكم كأهل الكتاب أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية متدابرين يعادي بعضكم بعضاً ويحاربه.
﴿واذكروا نعمة الله﴾ أي : إنعامه ﴿عليكم﴾ التي من جملتها الهداية والتوفيق للإسلام المؤدّي إلى التآلف ﴿إذ كنتم أعداء﴾ في الجاهلية بينكم الإحن والعداوات والحروب المتواصلة ﴿فألف بين قلوبكم﴾ بالإسلام وقذف فيها المحبة ﴿فأصبحتم بنعمته إخواناً﴾ متراحمين متناصحين مجتمعين على أمر واحد وهو الأخوّة في الله وقيل : هم الأوس والخزرج كانا أخوين لأب وأم فوقعت بينهما العداوة بسبب قتيل وتطاولت الحروب والعداوة بينهم مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام وألف بينهم برسول الله ﷺ ﴿وكنتم على شفى﴾ أي : طرف ﴿حفرة من النار﴾ أي : حفرة ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا كفاراً ﴿فأنقذكم منها﴾ بالإسلام والضمير للحفرة أو النار أو الشفى وأنثه لتأنيث ما أضيف إليه كقول الشاعر :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧١
كما شرقت صدر القناة من الدم*
﴿كذلك﴾ أي : مثل ذلك البيان البليغ ﴿يبين الله لكم آياته﴾ أي : دلائله ﴿لعلكم تهتدون﴾
٢٧٢
إرادة أن تزدادوا هدى.
﴿ولتكن منكم أمة﴾ أي : طائفة ﴿يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر﴾ فمن للتبعيض ؛ لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات ولأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف والمنكر وعلم كيف يرتب الأمر في إقامته وكيف يباشره، فإنّ الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة وعلى هذا فالمخاطب به الكل على الأصح ويسقط بفعل البعض الحرج عن الباقين وهكذا كل ما هو فرض كفاية، فإن تركوه أصلاً أثموا جميعاً وقيل : من زائدة وقيل : للتبيين بمعنى وكونوا أمة تأمرون بالمعروف كقوله تعالى :﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف﴾ ﴿وأولئك﴾ أي : الداعون الآمرون الناهون ﴿هم المفلحون﴾ أي : الفائزون بكمال الفلاح.
روى الإمام أحمد وغيره "أنه ﷺ سئل وهو على المنبر : من خير الناس ؟
قال :"آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم للرحم".
وروي أنه ﷺ قال :"من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه".
وروي أنه ﷺ قال :"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".
وروي أنه ﷺ قال :"والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذاباً من عنده ثم لتدعنه فلا يستجاب لكم".
وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال : أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية ﴿يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم﴾ (المائدة، ١٠٥) وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول :"إنّ الناس إذا رأوا منكراً فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعذابه".