وروي أنه ﷺ قال :"مثل المداهن في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا سفينة فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها فكان الذي في أسفلها يمرّ بالماء على الذي في أعلاها فتأذوا به فأخذ فأساً فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه فقالوا : مالك فقال : تأذيتم بي ولا بد لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه وأنجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم" وعن حذيفة : يأتي على الناس زمان يكون فيهم جيفة الحمار أحب إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر. وعن سفيان الثوري : إذا كان الرجل محبباً في جيرانه محموداً عند إخوانه
٢٧٣
فاعلم أنه مداهن. والأمر بالمعروف تابع للمأمور به إن كان واجباً فواجب، وإن كان مندوباً فمندوب، وأمّا النهي عن المنكر ـ أي : الحرام ـ فواجب كله لأنّ جميع المنكر تركه واجب لاتصافه بالقبح والأظهر أن العاصي يجب عليه أن ينهى عما يرتكبه ؛ لأنه يجب عليه تركه وإنكاره فلا يسقط بترك أحدهما وجوب الآخر. وعن السلف مروا بالخير وإن لم تفعلوا وإنما يجب الأمر والنهي على المكلف إذا لم يخش ضرراً ويجب أن يدفع بالأخف فالأخف كدفع الصائل.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧١
فإن قيل : الدعاء للخير عام في التكاليف من الأفعال والتروك فهو شامل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فما فائدة ذكر ذلك ؟
أجيب : بأنه من عطف الخاص على العام إيذاناً بفضله كقوله تعالى :﴿حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى﴾ (البقرة، ٢٣٨)
﴿ولا تكونوا كالذين تفرقوا﴾ عن دينهم ﴿واختلفوا﴾ فيه وهم اليهود والنصارى ﴿من بعدما جاءهم البينات﴾ أي : الآيات والحجج الموجبة للإتفاق على كلمة واحدة وهي كلمة الحق، وقيل : هم مبتدعة هذه الأمة وهم المشبهة والجبرية والحشوية وأشباههم وقوله تعالى :﴿وأولئك لهم عذاب عظيم﴾ وعيد للذين تفرقوا وتهديد للمتشبه بهم.
﴿يوم تبيض وجوه وتسودّ وجوه﴾ هو يوم القيامة ونصب يوم بالظرف وهو لهم لما فيه من معنى الفعل أو بإضمار اذكروا والبياض من النور والسواد من الظلمة فمن كان من أهل نور الحق وسم ببياض اللون وإسفاره وإشراقه وابيضت صحيفته وأشرقت وسعى النور بين يديه ويمينه، ومن كان من أهل ظلمة الباطل وسم بسواد اللون وكسوفه واسودت صحيفته وأظلمت وأحاطت به الظلمة من كل جانب نعوذ بالله وبسعة رحمته من ظلمات الباطل وأهله ﴿فأما الذين اسودّت وجوههم﴾ فهم الكافرون فيلقون في النار ويقال لهم توبيخاً ﴿أكفرتم بعد إيمانكم﴾ واختلفوا في كيف كفروا بعد إيمانهم فقال أبي بن كعب : أراد به الإيمان يوم الميثاق حين قال لهم :﴿ألست بربكم ؟
قالوا : بلى﴾
(الأعراف، ٧٢) يقول : أكفرتم بعد إيمانكم يوم الميثاق ؟
وعلى هذا هم جميع الكفرة وقال الحسن : هم المنافقون تكلموا بالإيمان بألسنتهم وأنكروا بقلوبهم. وعن عكرمة أنهم أهل الكتابين آمنوا بأنبيائهم وبمحمد ﷺ قبل أن يبعث فلما بعث كفروا به. وقال قتادة : هم أهل البدع. وقال أبو أسامة : هم الخوارج، ولما رآهم على درج دمشق دمعت عيناه ثم قال كلاب : أهل النار هؤلاء شر قتلى تحت أديم السماء وخير قتلى تحت أديم الأرض الذين قتلهم هؤلاء، فقال له أبو غالب : أشيء تقوله برأيك أم شيء سمعته من رسول الله ﷺ فقال : بل سمعته من رسول الله ﷺ غير مرّة قال : فما شأنك دمعت عيناك قال : رحمة لهم كانوا من أهل الإسلام فكفروا ثم قرأ هذه الآية ثم أخذ بيده فقال : إنّ بأرضك منهم كثيراً فأعاذك الله تعالى منهم وقوله تعالى :﴿فذوقوا العذاب﴾ أمر إهانة ﴿بما كنتم تكفرون﴾ أي : بسبب كفركم أو جزاء كفركم فالباء متعلقة بذوقوا على الأول وبمحذوف على الثاني.
﴿وأمّا الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله﴾ أي : جنته عبر عنها بالرحمة تنبيهاً على أنّ المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة الله تعالى لا يدخل الجنة إلا برحمته وفضله.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧١
فإن قيل : كان حق الترتيب أن يقدّم ذكرهم أجيب : بأنّ القصد أن يكون مطلع الكلام ومقطعه حلية المؤمنين وثوابهم.
فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى :﴿هم فيها خالدون﴾ بعد قوله ﴿ففي رحمة الله﴾ أجيب : بأنّ
٢٧٤
فائدته أنه أخرج مخرج الإستئناف والتأكيد كأنه قيل : كيف يكونون فيها ؟
فقال : هم فيها خالدون لا يظعنون عنها ولا يموتون.
﴿تلك﴾ أي : هذه الآيات الواردة في الوعد والوعيد ﴿آيات الله نتلوها عليك﴾ يا محمد ﴿بالحق﴾ أي : متلبسة بالحق والعدل من جزاء المحسن والمسيء ﴿وما الله يريد ظلماً للعالمين﴾ إذ يستحيل الظلم منه تعالى ؛ لأنه لا يجب عليه شيء بل هو المالك على الإطلاق كما قال تعالى :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧١
﴿و ما في السموات وما في الأرض﴾ ملكاً وخلقاً ﴿وإلى الله ترجع﴾ أي : تصير ﴿الأمور﴾ فيجازي كلاً بما وعد له وأوعد.


الصفحة التالية
Icon