﴿كنتم﴾ يا أمة محمد ﷺ في علم الله تعالى ﴿خير أمة أخرجت﴾ أي : أظهرت ﴿للناس﴾ وقيل : كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة موصوفين به.
روي أنه ﷺ قال :"ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي خيرها وأكرمها على الله تعالى".
وروي أنه ﷺ قال :"مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوّله خير أم آخره".
وروي أنه ﷺ قال :"إنّ الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمّتي".
٢٧٥
وروي أنه ﷺ قال :"أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون من هذه الأمة" وقوله تعالى :﴿تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر﴾ استئناف بين به كونهم خير أمة كما تقول : زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بمصالحهم أو خبر ثان لكنتم وقوله تعالى :﴿وتؤمنون با﴾ يتضمن الإيمان بكل ما يجب أن يؤمن به ؛ لأنّ من آمن ببعض ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو ثواب أو غير ذلك لم يعتدّ بإيمانه فكأنه غير مؤمن بالله.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧٥
فإن قيل : لم أخر تؤمنون بالله وحقه أن يقدم ؟
أجيب : بأنه إنما أخر ؛ لأنه قصد بذكره الدلالة على أنهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر إيماناً بالله تعالى وتصديقاً به وإظهاراً لدينه.
تنبيه : استدل بهذه الآية على أنّ إجماع هذه الأمة حجة ؛ لأنها تقتضي كونهم آمرين بكل معروف ناهين عن كل منكر إذ اللام فيها للإستغراق فلو أجمعوا على باطل كتحريم شيء هو في نفس الأمر معروف كان أمرهم على خلاف ذلك ﴿ولو آمن أهل الكتاب﴾ بالله ورسوله ﷺ ﴿لكان﴾ الإيمان ﴿خيراً لهم﴾ مما هم عليه لأنهم إنما آثروا دينهم على دين الإسلام حباً للرياسة واستتباع العوام ﴿منهم المؤمنون﴾ كعبد الله بن سلام وأصحابه ﴿وأكثرهم الفاسقون﴾ أي : المتمرّدون في الكفر.
﴿لن يضروكم﴾ أي : اليهود يا معشر المسلمين بشيء ﴿إلا أذى﴾ أي : ضرراً يسيراً كسب وطعن في الدين وتهديد ونحو ذلك ﴿وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار﴾ منهزمين ولا يضرّوكم بقتل أو أسر ﴿ثم لا ينصرون﴾ عليكم بل لكم النصر عليهم. وفي هذا تثبيت لمن أسلم منهم ؛ لأنهم كانوا يؤذونهم بأنهم لا يقدرون أن يتجاوزوا الأذى إلى ضرر يبالي به مع أنه تعالى وعدهم الغلبة عليهم والانتقام منهم وأنّ عاقبة أمرهم الخذلان والذل.
فإن قيل : هلا جزم المعطوف في قوله :﴿ثم لا ينصرون﴾ ؟
أجيب : بأنه عدل به عن حكم الجزاء ؛ إلى حكم الإخبار ابتداء كأنه قيل : ثم أخبركم أنهم لا ينصرون والفرق بين رفعه وجزمه في المعنى أنه لو جزم لكان نفي النصر مقيداً بمقاتلتهم كتولية الأدبار وحين رفع كان نفي النصر وعداً مطلقاً كأنه قال : ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها أو أبشركم بها بعد التولية أنهم مخذولون منتف عنهم النصر والقوّة لا ينهضون بعدها بجناح ولا يستقيم لهم أمر كما أخبر عن حال بني قريظة والنضير ويهود خيبر.
فإن قيل : ما معنى التراخي في ثم أجيب : بأنّ معناه التراخي في الرتبة ؛ لأنّ الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار.
﴿ضربت عليهم الذلة﴾أي : هدر النفس والمال والأهل أو ذل التمسك بالباطل والجزية ﴿أينما ثقفوا﴾ أي : حيثما وجدوا فلا عز لهم ولا اعتصام في سائر أحوالهم ﴿إلا﴾ في حال اعتصامهم ﴿بحبل من الله﴾ أي : بذمّة الله أو كتابه ﴿وحبل من الناس﴾ أي : بذمّة المسلمين أو بدين الإسلام واتباع سبيل المؤمنين أي : لا عز لهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمّة لما قبلوا من الجزية أو دين الإسلام ﴿وباؤا﴾ أي : رجعوا ﴿بغضب من الله﴾ أي : مستوجبين له ﴿وضربت عليهم المسكنة﴾ كما يضرب البيت على أهله فهم ساكنون في المسكنة غير ظاعنين عنها
٢٧٦
يظهرون الفقر والمسكنة. وفسر أكثر المفسرين المسكنة بالجزية وهم اليهود عليهم لعنة الله وغضبه قال البيضاوي : واليهود في غالب الأمر فقراء مساكين اه. ﴿ذلك﴾ أي : ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب كائن ﴿بأنهم﴾ أي : بسبب أنهم ﴿كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك﴾ أي : الكفر والقتل ﴿بما عصوا وكانوا يعتدون﴾ أي : كائن بسبب عصيانهم واعتدائهم حدود الله تعالى فإنّ الإصرار على الصغائر يقضي إلى الكبائر والإصرار على الكبائر يقضي إلى الكفر والعياذ بالله تعالى.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧٥