فإن قيل : هلا عددت هذه الأحرف بأجمعها في أوائل القرآن ومالها جاءت مفرّقة على السور، أجيب : بأنّ إعادة التنبيه على أنّ المتحدّى به مؤلف منها لا غير وتجديده في غير موضع واحد أوصل إلى الغرض وأقرّ له في الإسماع والقلوب من أن يفرد ذكره مرّة، وكذلك مذهب كل تكرير جاء في القرآن فمطلوب به تمكين المكرّر في النفوس وتقريره.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٣
فإن قيل : هلا جاءت على وتيرة واحدة ولم اختلفت أعداد حروفها فوردت ص وق ون على حرف، وطه وطس ويس وحم على حرفين، والم والر وطسم على ثلاثة أحرف، والمص والمر على أربعة أحرف، وكهيعص وحمعسق على خمسة أحرف ؟
أجيب : بأنّ هذا على عادة افتنانهم في أساليب الكلام وتصرّفهم فيه على طرق شتى ومذاهب عدّة، وكما أنّ أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف لم تتجاوز ذلك سلك بهذه الفواتح تلك المسالك.
فإن قيل : ما وجه اختصاص كل سورة بالفاتحة التي اختصت بها ؟
أجيب : بأنه لما كان الغرض هو التنبيه والمبادي كلها في تأدية هذا الغرض سواء لا مفاضلة كان تطلب وجه الاختصاص ساقطاً كما إذا سمى الرجل بعض أولاده زيداً والآخر عمراً لم يقل له : لم خصصت ولدك هذا بزيد وذاك بعمرو ؟
لأنّ الغرض هو التمييز وهو حاصل بذلك.
فإن قيل : هل لهذه الفواتح محل من الإعراب ؟
أجيب : بأنّ لها محلاً عند من جعلها أسماء لأنها عنده كسائر الأعلام محلها يحتمل ثلاثة أوجه : إمّا الرفع بأنها مبتدأ أو خبر لمبتدأ محذوف أي : هذه ألم، أو النصب بفعل مقدّر كاذكر أو اقرأ أو اتل ألم، أو الجرّ بتقدير حذف حرف القسم.
﴿ذلك الكتاب﴾ الذي تقرؤه يا محمد على الناس ﴿لا ريب فيه﴾ لا شك في أنه من عند الله تعالى.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٣
فإن قيل : لم صحت الإشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد ؟
أجيب : بأن الإشارة وقعت فيه للتعظيم ولذلك قال الطيبي : أحسن ما قيل في توجيه ذلك قول صاحب "المفتاح" قال ذلك الكتاب ذهاباً إلى بعده درجة وقيل : وقعت الإشارة إلى ﴿ألم﴾ بعدما سبق التكلم به وتقضى، والمنقضي في حكم المتباعد، وهذا في كل كلام يحدّث الرجل بحديث ثم يقول : وذلك ما لا شك فيه ويحسب الحاسب ثم يقول : فذلك كذا وكذا وقال تعالى :﴿لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك﴾ (البقرة، ٦٨) وقال نبي الله يوسف ﷺ ﴿لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي﴾ (يوسف، ٣٧) ولأنه لما وصل من المرسل سبحانه وتعالى إلى المرسل إليه ﷺ وقع في حدّ البعد كما تقول لصاحبك وقد أعطيته شيئاً : احتفظ بذلك أي : تمسك به، وقيل : معناه ذلك
٢٤
الكتاب الموعود إنزاله بقوله تعالى :﴿إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً﴾ (المزمل، ٥) أو في الكتب المتقدّمة لأن سورة البقرة مدنية كما مرّ وأكثرها احتجاج على اليهود وعلى بني إسرائيل وقد كانت بنو إسرائيل أخبرهم موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام إن الله يرسل محمداً وينزل عليه كتاباً فقال تعالى :﴿ذلك الكتاب﴾ أي : الذي أخبر الأنبياء المتقدّمون بأن الله سينزله على النبيّ المبعوث من ولد إسماعيل وقيل : إنه تعالى لما أخبر عن القرآن بأنه في اللوح المحفوظ بقوله : وإنه في أمّ الكتاب لدينا وقد كان ﷺ أخبر أمته بذلك فغير ممتنع أن يقول تعالى :﴿ذلك الكتاب﴾ ليعلم أن هذا المنزل هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ. والكتاب مصدر سمي به المفعول للمبالغة أو فعال بني للمفعول كاللباس ثم أطلق على المنظوم عبارة قبل أن يكتب لأنه مما يكتب، وأصل الكتب الضمّ والجمع، سمي الكتاب كتاباً لأنه جمع حرف إلى حرف والكتاب جاء في القرآن على وجوه ؛ أحدها : الفرض قال تعالى :﴿كتب عليكم القصاص﴾ (البقرة، ١٨٧) ﴿كتب عليكم الصيام﴾ (البقرة، ١٨٣) ﴿إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً﴾ (النساء، ١٠٣) وثانيها : الحجة والبرهان قال تعالى :﴿فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين﴾ (الصافات، ١٥٧) أي : برهانكم، وثالثها : الأجل قال تعالى :﴿وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم﴾ (الحجر، ٤) أي : أجل، ورابعها : بمعنى مكاتبة السيد رقيقه، قال تعالى :﴿والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم﴾ (النور، ٣٣).
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٣