﴿وسارعوا﴾ أي : بادروا وأقبلوا ﴿إلى مغفرة من ربكم﴾ أي : إلى ما تستحق به المغفرة كالإسلام والتوبة وأداء الفرائض والهجرة والجهاد والتكبيرة الأولى والأعمال الصالحات. وقرأ نافع وابن عامر بغير واو قبل السين والباقون بواو قبلها ﴿و﴾ إلى ﴿جنة عرضها السموات والأرض﴾ أي : عرضها كعرضهما كقوله تعالى :﴿عرضها كعرض السماء والأرض﴾ (الحديد، ٢١) وإنما جمعت السماء وأفردت الأرض لأنها أنواع قيل : بعض فضة وبعض غير ذلك، والأرض نوع واحد وذكر العرض للمبالغة في وصف الجنة بالسعة ؛ لأنّ العرض دون الطول كما دلّ عليه قوله تعالى :﴿بطائنها من إستبرق﴾ (الرحمن، ٥٤) على أن الظهارة أعظم يقول : هذه صفة عرضها فكيف طولها ؟
قال الزهري : إنما وصف عرضها فأما طولها فلا يعلمه إلا الله تعالى وهذا على سبيل التمثيل لا أنها كالسموات والأرض لا غير بل معناه كعرض السموات السبع والأرضين السبع عند ظنكم كقوله تعالى :﴿خالدين فيها ما دامت السموات والأرض﴾ (هود، ١٠٧) أي : عند ظنكم وإلا فهما زائلتان.
وعن ابن عباس : الجنة كسبع سموات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض. وعنه أيضاً إنّ لكل واحد من المطيعين جنة بهذه السعة.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٨٣
وروي أنّ ناساً من اليهود سألوا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : إذا كانت الجنة عرضها ذلك فأين تكون النار ؟
فقال لهم : أرأيتم إذا جاء الليل فأين يكون النهار ؟
وإذا جاء النهار فأين يكون الليل ؟
فقالوا : إنه لمثلها في التوراة، ومعناه أنه حيث شاء الله. وسئل أنس بن مالك عن الجنة : أفي السماء أم في الأرض وأيّ أرض وسماء تسع الجنة ؟
قيل : فأين هي ؟
قال : فوق السموات السبع تحت العرش، وقال قتادة : كانوا يرون أنّ الجنة فوق السموات السبع وأنّ جهنم تحت الأرضين السبع.
٢٨٣
فإن قيل : قال تعالى :﴿وفي السماء رزقكم وما توعدون﴾ وأراد بالذي وعدنا الجنة فإذا كانت الجنة في السماء فكيف يكون عرضها ما ذكر ؟
أجيب : بأنّ باب الجنة في السماء وعرضها كما أخبر تعالى :﴿أعدّت﴾ هيئت ﴿للمتقين﴾ الله بعمل الطاعات وترك المعاصي وفي ذلك دليل على أنّ الجنة مخلوقة الآن وقيل : إنّ الجنة والنار يخلقان بعد قيام الساعة.
ثم وصف الله تعالى المتقين بصفات فقال :
﴿الذين ينفقون﴾ أي : في طاعة الله ﴿في السرّاء والضرّاء﴾ أي : في العسر واليسر أو الأحوال كلها ؛ لأنّ الإنسان لا يخلو عن مسرة أو مضرة أي : لا يخلون عن حال مّا بإنفاق ما قدروا عليه من قليل أو كثير كما يحكى عن بعض السلف أنه ربما تصدّق ببصلة، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها تصدّقت بحبة عنب. فأول ما ذكر من أوصافهم الموجبة للجنة ذكر السخاء. وقد روي عنه ﷺ أنه قال :"السخيّ قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد عن النار والبخيل بعيد من الله قريب من النار ولجاهل سخي أحب إلى الله من العالم البخيل" ﴿والكاظمين الغيظ﴾ أي : الممسكين عليه الكافين عن إمضائه مع القدرة.
روي أنه ﷺ قال :"من كظم غيظاً وهو يقدر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء".
وروي :"من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً".
وروي :"ليس الشديد بالصرعة لكنه الذي يملك نفسه عند الغضب" ﴿والعافين عن الناس﴾ أي : التاركين عقوبة من استحقوا مؤاخذته.
روي أنه ﷺ قال :"ينادي مناد يوم القيامة أين الذين كانت أجورهم على الله فلا يقوم إلا من عفا" وعن ابن عيينة أنه رواه للرشيد وقد غضب على رجل فخلاه.
وروي أنه ﷺ قال :"إنّ هؤلاء في أمّتي قليل إلا من عصم الله" وقد كانوا كثيراً في الأمم التي مضت وهذا الإستثناء يحتمل أن يكون منقطعاً وهو ظاهر وأن يكون متصلاً لما في القلة من معنى العدم كأنه قيل : إن هؤلاء في أمّتي لا يوجدون إلا من عصم الله فإنه يوجد في أمّتي وقوله تعالى :﴿وا يحب المحسنين﴾ يجوز أن تكون اللام فيه للجنس فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورون وأن تكون للعهد فتكون إشارة إلى هؤلاء وقوله تعالى :
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٨٣
والذين إذا فعلوا فاحشة﴾ أي : ذنباً قبيحاً كالزنا ﴿أو ظلموا أنفسهم﴾ أي : بما دون الزنا كالقبلة وقيل : الفاحشة ما يتعدّى وظلم النفس ما ليس كذلك ﴿ذكروا الله﴾ أي : ذكروا وعيده أو
٢٨٤
حكمه أو حقه العظيم ﴿فاستغفروا لذنوبهم﴾ بالندم والتوبة عطف على المتقين أو على الذين ينفقون. واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال عطاء : نزلت في أبي سعيد التمار ؛ أتته إمرأة حسنة تبتاع منه تمراً فقال لها : إنّ هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه فذهب بها إلى بيته وضمها إلى نفسه وقبلها فقالت له : اتق الله فتركها وندم على ذلك ثم أتى النبيّ ﷺ وذكر ذلك له فنزلت هذه الآية.