وقال مقاتل والكلبي : آخى رسول الله ﷺ بين رجلين أحدهما من الأنصار والآخر من ثقيف، فخرج الثقفي في غزاة واستخلف الأنصاري على أهله فاشترى لهم اللحم ذات يوم، فلما أرادت المرأة أن تأخذ منه دخل على أثرها وقبل يدها ثم ندم وانصرف ووضع التراب على رأسه وهام على وجهه، فلما رجع الثقفيّ لم يستقبله الأنصاري، فسأل امرأته عن حاله فقالت : لا أكثر الله في الإخوان مثله ووصفت له الحال والأنصاري يسيح في الجبال تائباً مستغفراً، فطلبه الثقفي حتى وجده فأتى به أبا بكر رجاء أن يجد عنده راحة وفرجاً، وقال الأنصاري : هلكت وذكر القصة، فقال أبو بكر : ويحك أما علمت أنّ الله تعالى يغار للغازي ما لا يغار للمقيم ثم أتيا عمر، فقال عمر : مثل ذلك ثم أتيا النبيّ ﷺ فقال : مثل مقالهما فنزلت هذه الآية وقوله تعالى :﴿ومن﴾ أي : أحد ﴿يغفر الذنوب إلا الله﴾ استفهام بمعنى النفي معترض بين المعطوفين والمراد به وصفه سبحانه وتعالى بسعة الرحمة وعموم المغفرة والحث على الإستغفار والوعد بقبول التوبة ﴿ولم يصروا على ما فعلوا﴾ أي : ولم يقيموا على قبيح فعلهم بل أقلعوا عنه مستغفرين.
روي عنه ﷺ أنه قال :"ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة".
وروي :"لا كبيرة مع الإستغفار ولا صغيرة مع الإصرار" وقوله تعالى :﴿وهم يعلمون﴾ حال من يصروا أي : ولم يصروا على قبيح فعلهم عالمين به وقوله تعالى :
﴿أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار﴾ إشارة إلى الفريقين ويجوز أن يكون والذين مبتدأ وأولئك خبره وقوله تعالى :﴿خالدين فيها﴾ حال مقدّرة أي : مقدّرين الخلود فيها إذا دخلوها.
تنبيه : لا يلزم من إعداد الجنة للمتقين والتائبين جزاء لهم أن لا يدخلها المصرون كما لا يلزم من إعداد النار للكافرين جزاء لهم أن لا يدخلها غيرهم، فقول الزمخشري في "الكشاف" وفي هذه الآيات بيان قاطع على أنّ الذين آمنوا على ثلاث طبقات : متقون وتائبون ومصرون وأنّ الجنة للمتقين والتائبين منهم دون المصرين ومن خلف في ذلك فقد كابر عقله وعاند ربه جار على طريق الإعتزال من أن مرتكب الكبيرة إذا مات مصرّاً لا يدخل الجنة ونعوذ بالله من ذلك بل كل من مات على الإسلام يدخل الجنة وهو تحت المشيئة إن شاء الله عذبه، وإن شاء عفا عنه وقوله تعالى :﴿ونعم أجر العاملين﴾ المخصوص فيه بالمدح محذوف تقديره ونعم أجر العاملين ذلك أي : المغفرة والجنات.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٨٣
روي أنه ﷺ قال :"ما من عبد مؤمن أذنب ذنباً فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ثم يستغفر الله
٢٨٥
إلا غفر الله له".
وروي :"أيّ عبد أذنب ذنباً فقال : يا رب أذنبت ذنباً فاغفر لي فقال ربه : علم عبدي أنّ له رباً يغفر الذنوب ويؤاخذ بها فغفر له فمكث ما شاء الله ثم أذنب ذنباً آخر فقال : يا رب أذنبت ذنباً آخر فاغفر لي قال ربه : علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويؤاخذ به قد غفرت له فليعمل ما شاء ـ أي : ويستغفر ـ فأغفر له".
وروي أنه تبارك وتعالى قال :"يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك، ابن آدم إنك إن تلقني بقراب الأرض خطايا لقيتك بقرابها مغفرة بعد أن لا تشرك بي شيئاً، ابن آدم إنك إن تذنب ذنباً حتى يبلغ ذنبك عنان السماء ثم تستغفرني أغفر لك".
وروي أنّ الله تبارك وتعالى قال :"من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ما لم يشرك بي شيئاً" قال ثابت البناني : بلغني أنّ إبليس بكى حين نزلت هذه ﴿والذين إذا فعلوا فاحشة﴾ إلى آخرها.
وروي أنّ الله تعالى أوحى إلى موسى عليه الصلاة والسلام :"ما أقل حياء من يطمع في جنتي بغير عمل كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي". وعن شهر بن حوشب : طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة، وعن الحسن يقول الله تعالى يوم القيامة :"جوزوا الصراط بعفوي وادخلوا الجنة برحمتي واقتسموها بأعمالكم"، وعن رابعة البصرية أنها كانت تنشد :
*ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ** إنّ السفينة لا تجري على اليبس*
ونزل في هزيمة أحد.
﴿قد خلت﴾ أي : مضت ﴿من قبلكم سنن﴾ جمع سنة وهي الطريقة التي يكون عليها الإنسان ويلازمها ومنه سنة الأنبياء عليه الصلاة والسلام أي : قد مضت من قبلكم طرائق في الكفار بإمهالهم ثم أخذهم ﴿فسيروا﴾ أيها المؤمنون ﴿في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة﴾ أي : آخر أمر ﴿المكذبين﴾ الرسل من الهلاك فلا تحزنوا لغلبتهم فأنا أمهلهم لوقتهم.
﴿هذا﴾ أي : القرآن ﴿بيان للناس﴾ عامّة ﴿وهدى﴾ من الضلالة ﴿وموعظة للمتقين﴾ خاصة ﴿ولا تهنوا﴾ أي : تضعفوا عن قتال الكفار بما نالكم من القتل والجراح يوم أحد.