﴿ولا تحزنوا﴾ على ما أصابكم وكان قد قتل يومئذٍ من المهاجرين خمسة : منهم حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وقتل من الأنصار سبعون رجلاً ﴿وأنتم الأعلون﴾ أي : وحالكم أنكم أعلى شأناً منهم فإنكم على الحق وقتالكم لله وقتلاكم في الجنة، وإنهم على الباطل وقتالهم للشيطان وقتلاهم في النار أو لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم اليوم أو هي بشارة لهم بالعلو والغلبة أي : وأنتم الأعلون في العاقبة ﴿وإن جندنا لهم الغالبون﴾ (الصافات، ١٧٣) وقوله
٢٨٦
تعالى :﴿إن كنتم مؤمنين﴾ متعلق بالنهي بمعنى لا تهنوا إن صح إيمانكم على أنّ صحة الإيمان توجب قوّة القلب والثقة بالله تعالى وقلة المبالاة بأعدائه أو متعلق بالأعلون أي : إن كنتم مصدّقين بما يعدكم الله ويبشركم به من الغلبة.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٨٣
إن يمسسكم قرح﴾ جهد من جرح ونحوه يوم أحد ﴿فقد مس القوم﴾ الكفار ﴿قرح مثله﴾ يوم بدر ثم إنهم يضعفوا ولم يجبنوا فأنتم أولى أن لا تضعفوا فإنكم ترجون من الله ما لا يرجون، وقيل : كلا المسين كان يوم أحد، فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول الله ﷺ وقرأ أبو بكر وشعبة وحمزة والكسائي بضم قاف قرح في الموضعين، والباقون بالفتح وهما لغتان بمعنى، وقال الفرّاء : القرح بالفتح الجرح وبالضم آلمه ﴿وتلك الأيام﴾ تلك مبتدأ أو الأيام صفته وقوله تعالى :﴿نداولها﴾ خبره ويصح أنّ تلك الأيام مبتدأ وخبر كما تقول هي الأيام تبلي كل جديد والمراد بالأيام أوقات الظفر والغلبة أي : نصرّفها ﴿بين الناس﴾ قال البغوي : فيوماً عليهم ويوماً لهم. قال في "الكشاف" كقوله وهو من أبيات الكتاب :
*فيوم علينا ويوماً لنا ** ويوم نُساءُ ويوماً نُسَر*
تقديره فيوماً يكون الأمر علينا أي : بالأضرار ويوماً لنا أي : بالنفع فيكون يوماً ظرفاً ملائماً لقوله : ويوماً نُساء ويوماً نسر قاله الشيخ سعد الدين. أي : أديل تارة للمسلمين على المشركين وهو يوم بدر حتى قتلوا منهم سبعين، وأسروا سبعين وأديل تارة للكافرين على المسلمين وهو يوم أحد حتى جرحوا منهم سبعين وقتلوا خمساً وسبعين.
روي أنه ﷺ جعل عبد الله بن جبير على الرجالة يوم أحد وكانوا خمسين رجلاً، فقال :"إن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم فهزموهم قال : فأنا والله رأيت النساء يشتددن قد بدت خلاخلهنّ وسوقهنّ رافعات ثيابهنّ" فقال أصحاب عبد الله بن جبير : الغنيمة الغنيمة فما تنتظرون ؟
فقال عبد الله بن جبير : أنسيتم ما قال لكم رسول الله ﷺ قالوا : والله لنأتين الناس فلنصيبنّ من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين فذلك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم فلم يثبت مع النبيّ ﷺ إلا اثنا عشر رجلاً فأصابوا منا سبعين وكان النبيّ ﷺ وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة وسبعين أسيراً وسبعين قتيلاً، فقال أبو سفيان : أفي القوم محمد ثلاث مرّات فنهاهم النبيّ ﷺ أن يجيبوه، ثم قال : أفي القوم ابن أبي قحافة ثلاث مرّات، ثم قال : أفي القوم ابن الخطاب ثلاث مرّات، ثم رجع إلى أصحابه وهو يقول : أما هؤلاء فقد قتلوا فما ملك عمر نفسه فقال : كذبت والله يا عدوّ الله إنّ الذين عددت لأحياء كلهم وقد بقي لك ما يسوءك قال : يوم بيوم بدر والحرب سجال إنكم ستجدون في القوم مثلة ثم أخذ يرتجز :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٨٣
اعل هبل اعل هبل*
فقال النبيّ ﷺ "ألا تجيبوه ؟
" فقالوا : يا رسول الله ما نقول قال : قولوا الله أعلى وأجل قال : إنّ لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبيّ ﷺ "ألا تجيبوه" فقالوا : يا رسول الله ما نقول ؟
٢٨٧
فقال : قولوا الله مولانا ولا مولى لكم". وفي حديث ابن عباس : قال أبو سفيان : يوم بيوم وإنّ الأيام دول والحرب سجال، فقال عمر رضي الله تعالى عنه لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار" وإنما كانت الدولة يوم أحد للكفار على المسلمين لمخالفتهم لأمر رسول الله ﷺ ﴿وليعلم الله الذين آمنوا﴾ أي : أخلصوا إيمانهم من غيرهم.
فإن قيل : ظاهر هذه الآية أنّ الله تعالى إنما فعل تلك المداولة ليكتسب هذا العلم وذلك في حقه تعالى محال ونظير هذا الإشكال قوله تعالى :﴿أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم﴾ (آل عمران، ١٤٢)
وقوله تعالى :﴿ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين﴾ (، )
وقوله :﴿لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا﴾ (الكهف، ١٢)
وقوله :﴿ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم﴾ (محمد، ٣١)
وقوله :﴿إلا لنعلم من يتبع الرسول﴾ (البقرة، ١٤٣)
وقوله :﴿ليبلوكم أيكم أحسن عملاً﴾ (الملك، ٢)