﴿سنلقي﴾ أي : سنقذف ﴿في قلوب الذين كفروا الرعب﴾ أي : الخوف وذلك أنّ الكفار لما هزموا المسلمين في أحد أوقع الله الرعب في قلوبهم فتركوهم وفرّوا منهم من غير سبب، حتى روي أنّ أبا سفيان صعد الجبل ونادى يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت، فقال عليه الصلاة والسلام :"إن شاء الله" وقيل : لما ذهبوا متوجهين إلى مكة، فلما كانوا في بعض الطريق ندموا وقالوا : ما صنعنا شيئاً قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا الشريد تركناهم ارجعوا حتى نستأصلهم بالكلية، فلما عزموا على ذلك ألقى الله الرعب في قلوبهم. وقرأ ابن عامر والكسائي بضم العين والباقون بالسكون ﴿بما أشركوا﴾ أي : بسبب إشراكهم ﴿با ما لم ينزل به سلطاناً﴾ أي : حجة على عبادته وهو الأصنام وهذا كقوله :
٢٩٢
ولا ترى الضبّ بها ينحجر، أي : ليس بها ضب فلا ينحجر فكذلك هؤلاء ليس لهم حجة أصلاً، وأصل السلطنة القوة ومنه السليط لقوة اشتعاله والسلاطة بحدة اللسان ﴿ومأواهم النار وبئس مثوى﴾ أي : مأوى ﴿الظالمين﴾ أي : الكافرين هي.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٩٢
ولقد صدقكم الله وعده﴾ قال محمد بن كعب القرظي : لما رجع رسول الله ﷺ وأصحابه إلى المدينة من أحد وقد أصابهم ما أصابهم قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر ؟
فأنزل الله هذه الآية ؛ لأنّ النصر كان للمسلمين في الابتداء كما قال تعالى :﴿إذ تحسونهم﴾ أي : تقتلونهم من حسه إذا أبطل حسه وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار ذال إذ عند التاء والباقون بالإدغام ﴿بإذنه﴾ أي : بإرادته ﴿حتى إذا فشلتم﴾ أي : جبنتم عن القتال ﴿وتنازعتم﴾ أي : اختلفتم ﴿في الأمر﴾ أي : أمر النبيّ ﷺ بالمقام في سفح الجبل للرمي حين انهزم المشركون، فقال بعضكم : نذهب فقد نصر أصحابنا وقال آخرون : لا تخالفوا أمر النبيّ فاثبتوا مكانكم، فثبت عبد الله بن جبير أمير الرماة في نفر دون العشرة ونفر الباقون للنهبى وهو المعنى بقوله تعالى : وعصيتم أي : أمر النبي وتركتم المركز لطلب الغنيمة ﴿من بعدما أراكم﴾ أي : الله ﴿ما تحبون﴾ من الظفر والغنيمة وانهزام العدوّ وجواب إذا محذوف دل عليه ما قبله أي : منعكم نصره ويجوز أن يكون المعنى صدقكم الله وعده إلى وقت فشلكم وذلك أنّ رسول الله ﷺ جعل أحداً خلف ظهره واستقبل المدينة وأقام الرماة عند الجبل وأمرهم أن يثبتوا في مكانهم ولا يبرحوا سواء كانت الدولة للمسلمين أو عليهم، فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون خيلهم، والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم، ثم اشتغل بعضهم بالغنيمة كما قال تعالى :﴿منكم من يريد الدنيا﴾ وهم التاركون المركز للغنيمة ﴿ومنكم من يريد الآخرة﴾ وهم الثابتون مع عبد الله بن جبير حتى قتلوا.
فإن قيل : فإذا كان البعض هو المخالف فكيف جاء العتاب عاماً بقوله :﴿وعصيتم﴾ أجيب : بأنّ اللفظ وإن كان عاماً فقد جاء المخصص بعده وهو قوله :﴿منكم﴾ وقوله تعالى :﴿ثم صرفكم﴾ أي : ردّكم بالهزيمة ﴿عنهم﴾ أي : الكفار عطف على ما قبله والجملتان من قوله منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة اعتراض بين المتعاطفين وقيل : عطف على جواب إذا المقدّر ﴿ليبتليكم﴾ أي : ليمتحنكم فيظهر المخلص من غيره ﴿ولقد عفا عنكم﴾ ما ارتكبتموه من مخالفة أمر النبيّ ﷺ وميلكم إلى الغنيمة تفضلاً منه تعالى.
فإن قيل : إنّ ظاهر الآية يدل على أنّ الذنب من الصغائر لصحة العفو عنه من غير توبة لقيام الدليل على أن أصحاب الكبائر إذا لم يتوبوا لم يكونوا من أهل العفو والمغفرة أجيب : بأنّ هذا الذنب لا شك أنه كبيرة لأنهم خالفوا صريح نص الرسول ﷺ وصارت تلك المخالفة سبباً لانهزام المسلمين فلا بدّ من إضمار توبتهم ﴿وا﴾ أي : المتفضل المنعم ﴿ذو فضل على المؤمنين﴾ أي : يتفضل عليهم بالعفو أو في الأحوال كلها سواء أجعلت الدولة لهم أم عليهم إذ الإبتلاء أيضاً رحمة وقوله تعالى :
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٩٢
إذ﴾ العامل فيها مضمر أي : اذكر إذ ﴿تصعدون﴾ أي : تبعدون في الأرض هاربين ﴿ولا تلوون﴾ أي : تعرجون ﴿على أحد﴾ أي : لا يقف أحد لأحد ولا ينتظره ﴿والرسول
٢٩٣
يدعوكم﴾ أي : يقول : إليّ عباد الله إليّ عباد الله أنا رسول الله من يكرّ فله الجنة ﴿في أخراكم﴾ أي : من ورائكم ﴿فأثابكم﴾ أي : جازاكم ﴿غماً﴾بالهزيمة ﴿بغمّ﴾ أي : بسبب غمكم الرسول بالمخالفة. وقيل : الباء بمعنى على أي : مضاعفاً على غمّ فوت الغنيمة.