الله قد كره ما صنع قومك من أخذهم الفداء من الأسارى، وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يقدّموا ـ أي : الأسارى ـ فتضرب أعناقهم وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عددهم، فذكر ذلك رسول الله ﷺ للناس فقالوا : يا رسول الله عشائرنا وإخواننا لا بل نأخذ منهم فداهم فنتقوّى به على قتال أعدائنا ويستشهد منا عدّتهم، فقتل منهم يوم أحد سبعون عدد أسارى بدر" وهذا معنى قوله :﴿قل هو من عند أنفسكم﴾ أي : بأخذكم الفداء واختياركم للقتل ﴿إنّ الله على كل شيء قدير﴾ فيقدر على النصر وعلى منعه وعلى أن يصيب بكم تارة ويصيب منكم أخرى.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٩٨
﴿وما أصابكم يوم التقى الجمعان﴾ أي : جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أحد من القتل والجرح والهزيمة ﴿فبإذن الله﴾ أي : فهو كائن بقضائه وإرادته ودخلت الفاء في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط نحو الذي يأتيني فله درهم ﴿وليعلم المؤمنين﴾ وقد تقدّم أنّ معنى وليعلم الله كذا أي : يميز أو يظهر للناس ما كان في علمه.
﴿وليعلم الذين نافقوا﴾ قال الواحدي : يقال نافق الرجل فهو منافق إذا أظهر كلمة الإيمان وأضمر خلافها. قال أبو عبيدة : مشتق من نافقاء اليربوع ؛ لأنّ جحر اليربوع له بابان القاصعاء والنافقاء فإن طلب من أيهما كان يخرج من الآخر فقيل للمنافق : إنه منافق وهم اسم إسلامي ؛ لأنه صنع لنفسه طريقين إظهار الإسلام وإضمار الكفر فمن أيهما طلب خرج من الآخر وقوله تعالى :﴿وقيل لهم﴾ عطف على نافقوا أي : وليعلم الذين قيل لهم لما انصرفوا عن القتال وقالوا : لم نلق
٣٠٢
أنفسنا في القتل فرجعوا، وهم عبد الله بن أبي وأصحابه وكانوا ثلاثمائة من جملة الألف الذين خرجوا مع رسول الله ﷺ ﴿تعالوا قاتلوا في سبيل الله﴾ الكفار ﴿أو ادفعوا﴾ عنا أي : إن كان في قلبكم حب الإيمان فقاتلوا للدين، وإن لم تكونوا كذلك فقاتلوا دفعاً عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم، وقال السدي وابن جريج : ادفعوا عنا العدوّ بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا ؛ لأنّ الكثرة أحد أسباب الهيبة.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٠٢
روي عن سهل بن سعد الساعدي وقد كف بصره : لو أمكنني لبعت داري ولحقت بثغر من ثغور المسلمين فكنت بينهم وبين عدوّهم قيل : وكيف وقد ذهب بصرك ؟
قال : لقوله تعالى :﴿أو ادفعوا﴾ أراد أكثروا سوادهم واختلفوا في القائل فقال الأصم : إنه الرسول ﷺ كان يدعوهم إلى القتال وقيل : أبو جابر الأنصاري قال لهم : أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند حضور العدوّ ﴿قالوا لو نعلم﴾ أي : نحسن ﴿قتالاً لاتبعناكم﴾ فيه قال تعالى تكذيباً لهم :﴿هم للكفر يومئذٍ﴾ أي : يوم إذ قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم ﴿أقرب منهم للإيمان﴾ أي : لانقطاعهم وارتدادهم وكلامهم، فإنّ ذلك أوّل إمارات ظهرت منهم مؤذنة بكفرهم. وقيل : المعنى على حذف مضاف أي : هم لأهل الكفر أقرب منهم لأهل الإيمان بما أظهروه من خذلانهم للمؤمنين وكانوا قبل أقرب إلى الإيمان من حيث الظاهر.
تنبيه : فضلوا هنا على أنفسهم باعتبار حالين ووقتين، ولولا ذلك لم يجز تقول زيد قاعداً أفضل منه قائماً أو زيد قاعداً اليوم أفضل منه قاعداً غداً ولو قلت : زيد اليوم قاعداً أفضل منه اليوم قاعداً لم يجز ﴿يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم﴾ أي : يظهرون خلاف ما يضمرون لا تواطىء قلوبهم ألسنتهم بالإيمان فهم وإن كانوا يظهرون الإيمان باللسان لكنهم يضمرون في قلوبهم الكفر.
تنبيه : إضافة القول إلى الأفواه تصوير لنفاقهم، فإنّ إيمانهم موجود في أفواههم فقط وبهذا انتفى كونه للتأكيد، كما قيل به لتحصيل هذه الفائدة وقال ابن عادل : والظاهر أنّ القول يطلق على اللساني وعلى النفساني فتقييده بأفواههم تقييد لأحد محمليه اللهمّ إلا أن يقال إطلاقه على النفساني مجاز ﴿وا أعلم بما يكتمون﴾ أي : عالم بما في ضمائرهم وبما يخلو به بعضهم إلى بعض فإنه يعلم ذلك مفصلاً بعلم واجب وأنتم تعلمونه مجملاً بإمارات وجوّزوا في موضع.
﴿الذين قالوا﴾ ألقاب الإعراب الثلاثة : الرفع والنصب والجرّ، فالرفع من ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون مرفوعاً على خبر مبتدأ محذوف تقديره هم الذين، الثاني : أنه بدل من واو يكتمون، الثالث : إنه مبتدأ والخبر قوله ﴿قل فادرؤا﴾ ولا بد من حذف عائد تقديره قل لهم فادرؤا، والنصب من ثلاثة أوجه أيضاً : أحدها : النصب على الذمّ أي : أذم الذين قالوا، الثاني : أنه بدل من الذين نافقوا، الثالث : إنه صفة لهم، والجرّ من وجهين : أحدهما أنه بدل من الضمير في بأفواههم، والثاني : أنه بدل من الضمير في قلوبهم. كقول الفرزدق :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٠٢
على حالة لو أنّ في القوم حاتماً ** على جوده لضنّ بالماء حاتم*