بجرّ حاتم على أنه بدل من الهاء في جوده وضن مبني للمفعول وهو بالماء أي : ولو أن حاتماً مستقرّاً في القوم كائناً على جوده، وهم بتلك الحالة لبخل بالماء ﴿لإخوانهم﴾ أي : لأجل إخوانهم
٣٠٣
من جنس المنافقين المقتولين يوم أحد أو إخوانهم في النسب أو في سكنى الدار أو في عداوة النبيّ ﷺ وقوله تعالى :﴿وقعدوا﴾ حال مقدّرة بقد أي : قالوا : قاعدين عن القتال ﴿لو أطاعونا﴾ في القعود ﴿ما قتلوا﴾ كما لم نقتل. واختلف في قائل ذلك، فقال أكثر المفسرين : هو ابن أبي وأصحابه، وقول الأصم هذا لا يجوز ؛ لأنّ ابن أبي خرج مع النبيّ ﷺ في الجهاد يوم أحد وهذا القول واقع ممن تخلف فيه نظر لاحتمال أنّ المراد بالقعود القعود عن القتال لا عن الخروج إلى القتال ﴿قل :﴾ لهم ﴿فادرؤا﴾ أي : ادفعوا ﴿عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين﴾ في أن القعود ينجي منه لأنكم إن دفعتم القتل الذي هو أحد أسباب الموت لم تقدروا على دفع سائر أسبابه المبثوثة ولا بد لكم أن يتعلق بكم بعضها.
وروي أنه مات يوم قالوا هذه المقالة : سبعون منافقاً.
فإن قيل : ما وجه هذا الاستدلال فإن التحرز عن القتل ممكن وأمّا التحرز عن الموت فغير ممكن ؟
أجيب : بأن الكل بقضاء الله وقدره فلا فرق بين الموت والقتل وفي قوله تعالى :﴿فادرؤا عن أنفسكم الموت﴾ استهزاء بهم أي : إن كنتم رجالاً دفاعين لأسباب الموت فادرؤا جميع أسبابه حتى لا تموتوا، ونزل في شهداء أحد كما رواه الحاكم : وكانوا سبعين رجلاً : أربعة من المهاجرين حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعثمان بن شاس وعبد الله بن جحش وسائرهم من الأنصار.
﴿ولا تحسبن﴾ أي : ولا تظنن ﴿الذين قتلوا في سبيل الله﴾ أي : لأجل دينه والخطاب للنبي ﷺ أو لكل أحد ﴿أمواتاً بل﴾ هم ﴿أحياء عند ربهم﴾ أي : ذوو زلفى منه فليس المراد القرب المكاني لاستحالته ولا بمعنى في علمه وحكمه لعدم مناسبة المقام له بل بمعنى القرب شرفاً ورتبة.
قال البيضاوي وقيل : نزلت في شهداء بدر أي : وكانوا أربعة عشر رجلاً ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين، قال شيخنا القاضي زكريا : وهو غلط إنما نزل فيهم آية البقرة ﴿يرزقون﴾ من ثمار الجنة.
روى ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال :"أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل معلقة في ظل العرش".
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٠٢
وروي أنّ الله تعالى يطلع عليهم ويقول : سلوني ما شئتم فيقولون : يا رب كيف نسألك ونحن نسرح في الجنة في أيها شئنا ؟
فلما رأوا أن لا يتركوا من أن يسألوا شيئاً قالوا : نسألك أن تردّ أرواحنا إلى أجسادنا في الدنيا نقتل في سبيلك لما رأوا من النعيم، كما قال تعالى :
﴿فرحين بما آتاهم الله من فضله﴾ وهو شرف الشهادة والفوز بالحياة الأبدية والقرب من الله والتمتع بنعيم الجنة ﴿ويستبشرون﴾ أي : ويفرحون ﴿بالذين لم يلحقوا بهم﴾ من إخوانهم الذين تركوهم أحياء في الدنيا على مناهج الإيمان والجهاد لعلمهم أنهم إذا استشهدوا لحقوا بهم ونالوا من الكرامة ما نالوا فلذلك يستبشرون ﴿من خلفهم﴾ أي : الذين من خلفهم زماناً أو رتبة وأبدل من الذين ﴿أن﴾ أي : بأن ﴿لا خوف عليهم﴾ أي : الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ﴿ولا هم يحزنون﴾ في الآخرة والمعنى : إنهم يستبشرون بما تبين لهم من أمر الآخرة وحال من تركوا خلفهم
٣٠٤
من المؤمنين وهو أنهم يبعثون آمنين يوم القيامة لا يكدّرون بخوف وقوع محذور ولا بحزن فوات محبوب وفي ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على ازدياد الطاعة والجدّ في الجهاد والرغبة في نيل منازل الشهداء وإصابة فضلهم وإحماد لحال من يرى نفسه في خير فيتمنى مثله لإخوانه ؛ لأنّ الله تعالى مدحهم على ذلك.
﴿يستبشرن بنعمة من الله وفضل﴾ لما بين تعالى أنهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم بين هنا أنهم يستبشرون لأنفسهم بما رزقوا من النعيم لذلك أعاد لفظ الإستبشار.
فإن قيل : أليس ذكر فرحهم بأحوال أنفسهم والفرح عين الإستبشار فلزم التكرار ؟
أجيب : بأن الإستبشار هو الفرح التامّ فلا يلزم التكرار بأنّ المراد حصول الفرح بما حصل في الحال وحصول الإستبشار بما عرفوا أن النعمة العظيمة تحصل لهم في الآخرة والفرق بين النعمة والفضل أن النعمة هي الثواب والفضل هو التفضل الزائد.
فإن قيل : لم قال يستبشرون من غير عطف ؟
أجيب : بأنه تأكيد للأوّل ؛ لأنه قصد بالنعمة والفضل بيان متعلق الإستبشار الأول ﴿وأنّ الله لا يضيع أجر المؤمنين﴾ لما ذكر إيصال الثواب العظيم إلى الشهداء بين أنّ ذلك ليس مخصوصاً بهم بل كل مؤمن يستحق شيئاً من الأجر والثواب، فإنّ الله تعالى يوصل ثوابه إليه ولا يضيعه وقوله تعالى :
﴿الذين استجابوا والرسول﴾ أي : دعاءه مبتدأ ﴿من بعد ما أصابهم القرح﴾ بأحد وخبر المبتدأ ﴿للذين أحسنوا منهم﴾ بطاعته ﴿واتقوا﴾ مخالفته ﴿أجر عظيم﴾ هو الجنة.