جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٠٢
روي أنّ أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وهموا بالرجوع، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوّة فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان وقال :"لا يخرجنّ معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس فخرج ﷺ مع جماعة حتى بلغوا حمراء الأسد" وهي من المدينة على ثمانية أميال وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر.
روي أنه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة ثم إنّ المحمول يحمل الحامل ساعة أخرى وذلك لكثرة الجراحات فيهم وكان فيهم من يتوكأ على صاحبه ساعة ويتوكأ عليه صاحبه ساعة، فمرّ برسول الله ﷺ معبد الخزاعي بحمراء الأسد، وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم مع رسول الله ﷺ ومعبد يومئذٍ مشرك فقال : يا محمد والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أنّ الله قد أعفاك فيهم، ثم خرج من عند رسول الله ﷺ حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله ﷺ فلما رأى أبو سفيان معبداً قال : ما وراءك يا معبد ؟
قال : محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط قال : ويلك ما تقول ؟
قال : والله ما أراك ترحل حتى ترى نواصي الخيل فألقى الله الرعب في قلوب المشركين فذهبوا فنزلت.
تنبيه : من في الذين أحسنوا منهم للتبيين مثلها في قوله تعالى :﴿وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة﴾ (الفتح، ٢٩)
لأنّ الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا لا بعضهم وقوله تعالى :
٣٠٥
﴿الذين﴾ بدل من الذين قبله أو نعت ﴿قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم﴾ أي : الجموع ليستأصلوكم ﴿فاخشوهم﴾.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٠٢
روي أنّ أبا سفيان نادى عند انصرافه من أحد يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت، فقال ﷺ "إن شاء الله" فلما كان القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مرّ الظهران فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له أن يرجع فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمراً فقال : يا نعيم إني واعدت محمداً أن نلتقي بموسم بدر وإنّ هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن وقد بدا لي أن لا أخرج إليه، وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا فيزيدهم ذلك جراءة، ولأن يكون الخلف من قبلهم أحبّ إلي من أن يكون من قبلي، فالحق بالمدينة فثبطهم وأعلمهم أني في جمع كثير ولا طاقة لهم بنا ولك عندي عشرة من الإبل أضعها في يد سهل بن عمرو ويضمنها، فقال له نعيم : يا أبا يزيد أتضمن لي ذلك وأنطلق إلى محمد وأثبطه ؟
قال : نعم، فخرج نعيم حتى أتى المدينة، فوجد الناس يجهزون لميعاد أبي سفيان فقال : أين تريدون ؟
فقالوا : واعدنا أبو سفيان بموسم بدر الصغرى أن نقتتل بها، فقال : بئس الرأي رأيتم أتوكم في دياركم وقراركم، فلم يفلت منكم أحد إلا شريداً فتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم والله لا يفلت منكم أحد، فكره بعض أصحاب رسول الله ﷺ الخروج، فقال رسول الله ﷺ "والذي نفسي بيده لأخرجنّ ولو وحدي ولو لم يخرج معي أحد" فخرج في سبعين راكباً وهم يقولون : حسبنا الله ونعم الوكيل ولم يلتفتوا إلى ذلك القول كما قال تعالى :﴿فزادهم﴾ ذلك القول ﴿إيماناً﴾ أي : تصديقاً بالله ويقيناً ﴿وقالوا حسبنا الله﴾ أي : كافينا أمرهم ﴿ونعم الوكيل﴾ أي : المفوّض إليه الأمر هو حتى وافوا بدراً الصغرى فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش فيقولون : قد جمعوا لكم يريدون أن يرهبوا المسلمين فيقول المسلمون : حسبنا الله ونعم الوكيل وهذه هي الكلمة التي قالها إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه حين ألقي في النار، حتى بلغوا بدراً وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام، فأقام رسول الله ﷺ ببدر ينتظر أبا سفيان ثمان ليال ولم يلق رسول الله ﷺ وأصحابه أحداً من المشركين ووافوا السوق وكان معهم تجارات فباعوها واشتروا أدماً وزبيباً وأصابوا الدرهم درهمين وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين كما قال تعالى :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٠٢
أي : انصرفوا ﴿بنعمة من الله﴾ أي : بعافية لم يلقوا عدوّاً ﴿وفضل﴾ أي : تجارة وربح وهو ما أصابوا في السوق ﴿لم يمسسهم سوء﴾ أي : لم يصبهم أذى ولا مكروه، ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق قالوا : إنما خرجتم لتشربوا السويق.
تنبيه : الناس الأول المثبطون والآخرون أبو سفيان وأصحابه.


الصفحة التالية
Icon