فإن قيل : المثبط هو أبو نعيم فكيف قيل : الناس ؟
أجيب : بأنه من جنس الناس كما يقال : فلان يركب الخيل ويلبس البرد وماله إلا فرس واحد، وبرد واحد ولأنه حين قال ذلك لم يخل من ناس من أهل المدينة يثبطون مثل تثبيطه بل قيل : إنهم كانوا جماعة فقد مرّ بأبي سفيان ركب من عبد القيس يريدون المدينة للميرة فجعل لهم حمل بعير من زبيب إن ثبطوهم.
فإن قيل : كيف زادهم القول إيماناً ؟
أجيب : بأنهم لما سمعوا ذلك وأخلصلوا عنده النية والعزم على الجهاد وأظهروا حمية الإسلام كان ذلك أثبت ليقينهم وأقوى لاعتقادهم كما يزداد
٣٠٦
الإيمان والإيقان بتناصر الحجج، ولأن خروجهم على أثر التثبيط إلى وجه العدو طاعة عظيمة والطاعات تزيد الإيمان فعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قلنا : يا رسول الله إنّ الإيمان يزيد وينقص قال :"نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار". وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يأخذ بيد الرجل فيقول : قم بنا نزدد إيماناً، وعنه رضي الله تعالى عنه :"لو وزن إيمان أبي بكر رضي الله تعالى عنه بإيمان هذه الأمّة لرجح به" ﴿واتبعوا رضوان الله﴾ الذي هو مناط الفوز بخير الدارين بجراءتهم وخروجهم ﴿وا ذو فضل عظيم﴾ قد تفضل عليهم بالتثبيت وزيادة الإيمان والتوفيق للمبادرة إلى الجهاد والتصلب في الدين وإظهار الجراءة على العدوّ بالحفظ على كل من يسوءهم وإصابة النفع من ضمان الأجر حتى انقلبوا بنعمة من الله وفضل وفيه تحسر المتخلف وتخطئة رأيه حيث حرم نفسه ما فازوا به.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٠٦
إنما ذلكم﴾
أي : المثبط أو أبو سفيان ﴿الشيطان يخوّف أولياءه﴾ أي : القاعدين عن الخروج مع النبيّ ﷺ أو يخوّفكم أولياءه وهم أبو سفيان وأصحابه، ويدلّ على ذلك قوله تعالى :﴿فلا تخافوهم وخافون﴾ في مخالفة أمري فجاهدوا مع رسولي ﴿إن كنتم مؤمنين﴾ حقاً فإن الإيمان يقتضي إيثار خوف الله على خوف الناس، وقرأ أبو عمرو بإثبات الياء وصلاً وحذفها وقفاً، والباقون بالحذف وقفاً ووصلاً.
﴿ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر﴾ أي : يقعون فيه وقوعاً سريعاً حرصاً عليه، وهم المنافقون من المتخلفين أو قوم ارتدوا عن الإسلام أي : لا تهتم لكفرهم ﴿إنهم لن يضرّوا الله شيئاً﴾ بفعلهم وإنما يضرّون به أنفسهم، وقرأ نافع يحزنك بضمّ الياء وكسر الزاي حيث وقع ما خلا قوله تعالى في الأنبياء ﴿لا يحزنهم الفزع الأكبر﴾ (الأنبياء، ١٠٣)
فإنه على فتح الياء وضمّ الزاي فيه والباقون كذلك في الكل من حزنه لغة في أحزنه ﴿يريد الله أن لا يجعل لهم حظاً﴾ أي : نصيباً ﴿في الآخرة﴾ أي : الجنة فلذلك خذلهم وهو يدل على تمادي طغيانهم وموتهم على الكفر ﴿ولهم﴾ مع حرمان الثواب ﴿عذاب عظيم﴾ في النار.
﴿إنّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان﴾ أي : أخذوه بدله ﴿لن يضروا الله﴾ بكفرهم ﴿شيئاً ولهم عذاب أليم﴾ أي : مؤلم وكرّر ذلك للتأكيد أو هو تعميم للكفرة بعد تخصيص من نافق من المتخلفين أو ارتدوا من الأحزاب.
ونزل في مشركي مكة كما قاله مقاتل أو في قريظة أو النضير كما قاله عطاء :
﴿ولا يحسبنّ الذين كفروا أنما نملي﴾ أي : نمهل ﴿لهم﴾ بتطويل الأعمار ﴿خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً﴾ بكثرة المعاصي ﴿ولهم عذاب مهين﴾ أي : ذو إهانة.
روي أنه ﷺ سئل : أيّ الناس خير ؟
قال :"من طال عمره وحسن عمله" قيل : فأيّ الناس شرّ ؟
قال :"من طال عمره وساء عمله" وقرأ حمزة :﴿ولا تحسبنّ الذين كفروا﴾ و﴿لا تحسبنّ
٣٠٧
الذين يبخلون﴾
بالتاء فيهما على الخطاب، والباقون بالياء على الغيبة وفتح السين ابن عامر وعاصم وحمزة.
﴿ما كان الله ليذر﴾ أي : ليترك ﴿المؤمنين على ما أنتم عليه﴾ أيها الناس من اختلاط المسلم بغيره ﴿حتى يميز﴾ أي : يفصل ﴿الخبيث﴾ أي : المنافق ﴿من الطيب﴾، واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال الكلبيّ : قالت قريش : يا محمد تزعم أنّ من خالفك فهو في النار والله عليه غضبان، وأنّ من اتبعك على دينك فهو في الجنة والله عنه راض فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن ؟
فنزلت وقال السديّ : قال رسول الله ﷺ "عرضت عليّ أمّتي في صورتها في الطين كما عرضت على آدم وأعلمت من يؤمن ومن يكفر" فبلغ ذلك المنافقين، فقالوا استهزاء : زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ممن لم يخلق بعده ونحن معه وما يعرفنا، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقام على المنبر وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال :"ما بال أقوام طعنوا في علمي لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلا نبأتكم به" فقام عبد الله بن حذافة السهمي فقال : من أبي يا رسول الله ؟
قال :"حذافة" فقام عمر رضي الله تعالى عنه فقال : يا رسول الله رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً وبك نبياً فاعف عنا عفا الله تعالى عنك، فقال النبيّ ﷺ "فهل أنتم منتهون ؟
" ثم نزل عن المنبر فنزلت.


الصفحة التالية
Icon