جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٠٦
فإن قيل : لمن الخطاب في أنتم ؟
أجيب : بأنه للمصدّقين جميعاً من أهل النفاق والإخلاص كأنه قيل : ما كان الله ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض، وأنه لا يعرف مخلصكم من منافقكم لاتفاقكم على التصديق جميعاً حتى يميزهم منكم بالوحي إلى نبيه وإخباره بأحوالكم أو بالتكاليف الشاقة التي لا يصبر عليها ولا يذعن لها إلا الخلص المخلصون منكم كبذل الأموال والأنفس في سبيل الله فيختبر بها بواطنكم ويستدلّ بها على عقائدكم ففعل ذلك يوم أحد حيث أظهروا النفاق وتخلفوا عن رسول الله ﷺ وقرأ حمزة والكسائي يميز بضم الياء وفتح الميم وتشديد الياء بعد الميم مع كسرها، والباقون بفتح الياء وكسر الميم وسكون الياء بعد الميم ﴿وما كان الله ليطلعكم على الغيب﴾ فتعرفوا المنافق من غيره قبل التمييز ﴿ولكنّ الله يجتبي من رسله من يشاء﴾ فيوحي إليه ويخبره ببعض المغيبات أو ينصب له ما يدل عليها ﴿فآمنوا با ورسله﴾ أي : بصفة الإخلاص أو بأن تعلموا أنّ الله وحده مطلع على الغيب وتعلموا أنهم عباد مجتبون لا يعلمون إلا ما علمهم الله تعالى ولا يقولون إلا ما يوحى إليهم.
روي أنّ الكفرة قالوا : إن كان محمد صادقاً فليخبرنا بمن يؤمن ومن يكفر فنزلت الآية ﴿وإن تؤمنوا﴾ حق الإيمان ﴿وتتقوا﴾ النفاق ﴿فلكم أجر عظيم﴾ أي : لا يقادر قدره.
﴿ولا يحسبنّ الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو﴾ أي : بخلهم ﴿خيراً لهم بل هو﴾ أي : بخلهم ﴿شرّ لهم﴾ لاستجلاب العقاب إليهم، واختلفوا في المراد بهذا البخل، فقال أكثر العلماء : المراد به منع الواجب واستدلوا بوجوه : أحدها : أنّ الآية دالة على الوعيد الشديد وذلك لا يليق إلا بالواجب وثانيها : أنّ الله تعالى ذمّ البخل، والتطوّع لا يذمّ على تركه وثالثها : قال عليه الصلاة والسلام :"وأي داء أدوأ من البخل"، وتارك التطوّع لا يليق به هذا الوصف وإنفاق الواجب على أقسام منها : إنفاقه على نفسه وعلى أقاربه الذين تلزمه مؤنتهم ومنها : الزكوات ومنها ما إذا احتاج المسلمون إلى دفع عدوّ يقصد أنفسهم وأموالهم فيجب عليهم إنفاق الأموال على من
٣٠٨
يدفعهم عنهم ومنها : دفع ما يسدّ رمق المضطرّ.
﴿سيطوّقون﴾ أي : سوف يطوّقون ﴿ما بخلوا به يوم القيامة﴾ اختلفوا في هذا الوعيد، فقال ابن عباس وابن مسعود : يجعل ما منعه من الزكاة حية يطوّقها في عنقه يوم القيامة تنهشه من فرقه إلى قدمه وتنقر رأسه تقول : أنا مالك. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله ﷺ "من آتاه الله مالاً فلم يؤدّ زكاته مثل له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه ثم يقول : أنا مالك أنا كنزك ثم تلا :﴿ولا يحسبن الذين يبخلون﴾ الآية"، وعن أبي ذر قال : قال رسول الله ﷺ "والذي نفسي بيده ـ أو الذي لا إله غيره أو كما حلف ـ ما من رجل تكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدّي حقها إلا أتى بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها كلما جازت عليه أخراها ردّت عليه أولاها حتى يقضي بين الناس" وقال مجاهد : معنى سيطوّقون سيكلفون أن يأتوا بما بخلوا به يوم القيامة أي : يؤمرون بأداء ما منعوا فلا يمكنهم الإتيان به فيكون ذلك توبيخاً وقيل : إنّ هذه الآية نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد ﷺ ونبوّته وأراد بالبخل كتمان العلم كما في سورة النساء :﴿الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله﴾ (النساء، ٣٧)
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٠٦
ومعنى قوله : على هذا سيطوّقون أي : يحملون وزره وإثمه كقوله تعالى :﴿يحملون أوزارهم على ظهورهم﴾ (الأنعام، ٣١)
وقوله تعالى :﴿و ميراث السموات والأرض﴾ في معناه وجهان أحدهما : أنّ له ما فيهما مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره فهو الباقي الدائم بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم فما لهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله ونحوه قوله تعالى :﴿وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه﴾ (الحديد، ٧)
والثاني : وبه قال الأكثرون : إنّ معناه أنه يفنى أهل السموات والأرض ويفنى الأملاك ولا مالك لها إلا الله فجرى هذا مجرى الوراثة، قال ابن الأنباري : يقال : ورث فلان علم فلان إذا انفرد به بعد أن كان مشاركاً فيه، وقال تعالى :﴿وورث سليمان داود﴾ (النمل، ١٦)
لأنه انفرد بذلك الأمر بعد أن كان داود مشاركاً له فيه.
﴿وا بما تعملون﴾ من المنع والإعطاء ﴿خبير﴾ فيجازيكم به، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٠٦
٣٠٩