لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا} أي : فعلوا من إضلال الناس ﴿ويحبون أن يحمدوا﴾ بما أوتوا من علم التوراة و﴿بما لم يفعلوا﴾ من التمسك بالحق وهم على ضلال وهذا أيضاً من جملة أذاهم، لأنهم يفرحون بما أتوا به من أنواع الخبث والتلبيس على ضعفة المسلمين ويحبون أن يحمدوا بأنهم أهل البرّ والصدق والتقوى ولا شك أنّ الإنسان يتأذى بمشاهدة مثل هذه الأحوال فأمر النبيّ ﷺ بالصبر عليها.
روي أنه ﷺ سأل اليهود عن شيء مما في التوراة فكتموا الحق وأخبروه بخلافه، وأروه أنهم قد صدقوا وفرحوا بما فعلوا فأطلع الله تعالى رسوله ﷺ على ذلك وسلاه بما أنزل من وعيدهم أي :
٣١٣
لا تحسبن اليهود الذين يفرحون بما فعلوا من تدليسهم عليك ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من إخبارك بالصدق عما سألتهم عنه ناجين من العذاب وقيل : هم قوم تخلفوا عن الغزو ثم اعتذروا بأنهم رأوا المصلحة في التخلف واستحمدوا به، وقيل : هم المنافقون فإنهم يفرحون بمنافقتهم ويستحمدون إلى المسلمين بالإيمان الذي لم يفعلوه على الحقيقة ويجوز أن يكون شاملاً لكل من يأتي بحسنة فيفرح بها فرح إعجاب ويحب أن يحمده الناس ويثنوا عليه بالديانة والزهد بما ليس فيه وقوله تعالى :﴿فلا تحسبنهم﴾ تأكيد ﴿بمفازة﴾ أي : مكان ينجون فيه ﴿من العذاب﴾ في الآخرة بل هم في مكان يعذبون فيه وهو جهنم ﴿ولهم عذاب أليم﴾ أي : مؤلم فيها وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة وفتح السين ابن عامر وعاصم وحمزة والباقون بالكسر، ومفعولا تحسب الأولى دل عليهما مفعولا الثانية على قراءة التحتانية وعلى الفوقانية حذف الثاني فقط، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : فلا يحسبنهم بالياء على الغيبة وضم الباء الموحدة والباقون بالتاء على الخطاب وفتح الباء الموحدة وفتح السين ابن عامر وعاصم وحمزة كما تقدّم.
﴿و ملك السموات والأرض﴾ فهو يملك أمرهما وما فيهما من خزائن المطر والرزق والنبات وغير ذلك ﴿وا على كل شيء قدير﴾ ومنه تعذيب الكافرين وإنجاء المؤمنين.
﴿إنّ في خلق السموات والأرض﴾ وما فيهما من العجائب ﴿واختلاف الليل والنهار﴾ بالمجيء والذهاب والزيادة والنقصان ﴿لآيات﴾ أي : دلالات واضحة على قدرته تعالى : وباهر حكمته ﴿لأولي الألباب﴾ لذوي العقول الذين يفتحون بصائرهم للنظر والإستدلال والإعتبار ولا ينظرون إليها نظر البهائم غافلين عما فيها من عجائب الفطر، وفي النصائح الصغار : املأ عينيك من زينة هذه الكواكب، وأجلها في جملة هذه العجائب متفكراً في قدرة مقدرها متدبراً حكمة مدبرها قبل أن يسافر بك القدر ويحال بينك وبين النظر. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما "قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها : أخبريني بأعجب ما رأيت من أمر رسول الله ﷺ فبكت وأطالت ثم قالت : كل أمره عجب أتاني ليلة فدخل في لحافي حتى التصق جلده بجلدي ثم قال :"يا عائشة هل لك أن تأذني الليلة في عبادة ربي ؟
" فقلت : يا رسول الله إني لأحب قربك وأحب هواك قد أذنت لك فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء ثم قام يصلي فقرأ من القرآن وجعل يبكي حتى بلغ الدموع حقويه ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه وجعل يبكي ثم رفع يديه، فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي فقال : يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر فقال :"يا بلال أفلا أكون عبداً شكوراً ؟
" ثم قال :"وما لي لا أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة ﴿إنّ في خلق السموات والأرض﴾ ـ ثم قال : ـ ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها".
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣١٣
وروي :"ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأملها"، وعن علي رضي الله تعالى عنه : أنّ النبيّ ﷺ كان إذا قام من الليل يتسوّك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول : إنّ في خلق السموات والأرض، وحكي أنّ الرجل من بني إسرائيل كان إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلته سحابة، فعبدها فتى من فتيانهم
٣١٤
فلم تظله، فقالت أمه : لعل فرطة فرطت منك في مدتك فقال : ما أذكر ؟
قالت : لعلك نظرت مرّة إلى السماء ولم تعتبر قال : لعل، قالت : فما أوتيت إلا من ذاك. وقوله تعالى :
﴿الذين﴾ نعت لما قبله أو بدل ﴿يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم﴾ أي : مضطجعين أي : يذكرونه دائماً على الحالات كلها قائمين وقاعدين ومضطجعين ؛ لأنّ الإنسان قلّ أن يخلو من إحدى هذه الحالات الثلاث.
وروى الطبرانيّ وغيره : أنه ﷺ قال :"من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله". وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه هذا في الصلاة يصلي قائماً فإن لم يستطع فقاعداً فإن لم يستطع فعلى جنب، وعن عمران بن حصين قال : سألت رسول الله ﷺ عن صلاة المريض فقال :"يصلي قائماً فإن لم يستطع فقاعداً فإن لم يستطع فعلى جنب".