فائدة : الكتب المنزلة مائة وأربعة كتب أنزل على السيد شيث ستون صحيفة وعلى السيد إبراهيم ثلاثون وعلى السيد موسى قبل التوراة عشر فهذه مائة والأربعة الأخرى التوراة والإنجيل والزبور والفرقان العظيم، واختلف القرّاء في مدّ وقصر ما أنزل فقالون والدوري عن أبي عمر يمدّان ويقصران، وابن كثير والسوسي يقصران بلا خلاف وباقي القرّاء وهم ورش وعاصم وحمزة والكسائي يمدُّون بلا خلاف ويتفاوتون في طول المدّ فأطولهم مدّاً ورش وحمزة ودونهما عاصم ودونه ابن عامر والكسائي وهكذا كل مدّ منفصل ﴿وبالآخرة هم يوقنون﴾ أي : يعلمون أنها كائنة لأنّ اليقين هو العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكاً فيه قاله الإمام الرازي، ولذلك لا يوصف به العلم القديم ولا العلوم الضرورية فلا يقال تيقن الله كذا ولا تيقنت أنّ الكل أكبر من الجزء.
فائدة : سميت الدنيا دنيا لدنوّها من الآخرة وسميت الآخرة آخرة لتأخرها وكونها بعد فناء الدنيا وهي تأنيث الآخر صفة الدار وبدليل قوله تعالى :﴿تلك الدار الآخرة﴾ (القصص، ٨٣) قرأ ورش الآخرة بنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها حيث جاء وكذا الأرض، وقد أفلح، ومن آمن، وما أشبه ذلك.
﴿أولئك﴾ الموصوفون بما ذكر ﴿على هدى﴾ أي : رشد ﴿من ربهم﴾ ونكر هدى للتعظيم فكأنه أريد به ضرب لا يبالغ كنهه ولا يقادر قدره وأكد تعظيمه بأنّ الله مانحه والموفق له.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧
تنبيه : جميع القرّاء يمدّون أولئك بلا خلاف لأنه متصل لكن مرتبة ابن كثير وأبي عمرو دون مرتبة ابن عامر والكسائي في المتصل والمنفصل، وأولاء كلمة معناها الكناية عن جماعة والكاف للخطاب كما في حرف ذلك ﴿وأولئك هم المفلحون﴾ أي : الفائزون بالجنة والناجون من النار كرّر فيه اسم الإشارة تنبيهاً على أن اتصافهم بتلك الصفات يقتضي كل واحد من الاختصاصين وأن كلاً منهما كافٍ في تمييزهم بها عن غيرهم فلا يحتاجون فيه إلى مجموعهما.
فإن قيل : لم وسط العاطف بين هاتين الجملتين دون قوله تعالى :﴿أولئك كالأنعام بل هم أضلّ أولئك هم الغافلون﴾ (الأعراف، ١٧٩) ؟
أجيب : بأن الجملتين هنا مختلفتان باختلاف المسندين فيهما إذ على هدى من ربهم والمفلحون وإن تناسبتا تعلقاً مختلفتان مفهوماً ووجوداً ومقصوداً لأن الهدى في الدنيا والفلاح في العقبى وإثبات كل منهما مقصود في نفسه بخلاف كالأنعام والغافلون فإنهما وإن اختلفا مفهوماً قد اتحدا مقصوداً ووجوداً إذ لا معنى للتشبيه بالأنعام إلا المبالغة في الغفلة في الدنيا فناسب العطف في الأوّل دون الثاني.
تنبيه : تأمّل كيف نبه سبحانه وتعالى على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد من وجوه شتى بناء الكلام على اسم الإشارة للتعليل مع الإيجاز وتكريره وتعريف الخبر وتوسط الفصل لإظهار قدرهم والترغيب في اقتضاء أثرهم وأصل الفلاح القطع والشق ومنه سمي الزراع فلاحاً لأنه يشق الأرض فهم المقطوع لهم بالخير في الدنيا والآخرة.
ولما ذكر الله تعالى خاصة عباده وخاصة أوليائه بصفاتهم التي أهلتهم للهدى والفلاح عقبهم بذكر أضدادهم العتاة المردة الذين لا ينفع فيهم الهدى ولا تغني عنهم الآيات والنذر بقوله تعالى :
﴿إن الذين كفروا﴾ الكفر لغة ستر النعمة وأصله الكفر بالفتح وهو
٢٨
الستر ومنه قيل للزراع والليل كافر ولكمام الثمر كافور، وفي الشرع إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول به، وينقسم إلى أربعة أقسام : كفر إنكار، وكفر جحود، وكفر عناد، وكفر نفاق، فكفر الإنكار هو أن لا يعرف الله أصلاً ولا يعترف به، وكفر الجحود هو أن يعرف الله بقلبه ولا يقرّ بلسانه ككفر إبليس واليهود قال الله تعالى :﴿فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به﴾ (البقرة، ٨٩) وكفر العناد هو أن يعرف الله بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين به ككفر أبي طالب حيث يقول :
*ولقد علمت بأن دين محمد ** من خير أديان البرية دينا*
*لولا الملامة أو حذار مسبة ** لوجدتني سمحاً بذاك مبينا*
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧
وأمّا كفر النفاق فهو أن يقرّ باللسان ولا يعتقد بالقلب وجيع هذه الأقسام من لقي الله تعالى بواحد منها لا يغفر له قال الله تعالى :﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به﴾ (النساء، ٤٨ ـ ١١٦).


الصفحة التالية
Icon