الآيتين فبعث بهما رسول الله ﷺ إليهم فلما قرؤوهما كتبوا إليه : إن هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملاً صالحاً فنزلت :﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ فبعث بها إليهم فبعثوا إليه إنا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته فنزل :﴿يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله﴾ (الزمر، ٥٣)
الآية فبعث بها إليهم، فدخلوا في الإسلام ورجعوا إلى النبيّ ﷺ فقبل منهم ثم قال لوحشيّ "أخبرني كيف قتلت حمزة ؟
" فلما أخبره قال :"ويحك غيب وجهك عني" فلحق وحشيّ بالشأم فكان بها إلى أن مات ﴿ومن يشرك با فقد افترى﴾ أي : ارتكب ﴿إثماً عظيماً﴾ أي : كبيراً فالافتراء كما يطلق على القول يطلق على الفعل وكذا الاختلاق.
روي أن رجلاً قال : يا رسول الله ما الموجبات ؟
قال :"من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئاً دخل النار".
وروى أبو ذر أنه ﷺ قال :"ما من عبد قال : لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة" قلت : وإن زنى وإن سرق ؟
قال :"وإن زنى وإن سرق" قلت : وإن زنى وإن سرق قال :"وإن زنى وإن سرق" قلت :"وإن زنى وإن سرق ؟
قال :"وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر" وكان أبو ذر إذا حدّث بهذا قال : وإن رغم أنف أبي ذر ﴿ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم﴾ قال الحسن وقتادة : نزلت في اليهود والنصارى قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ﴿وقالوا : لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى﴾ (البقرة، ١١١)، وقال الكلبيّ : نزلت في رجال من اليهود جاؤوا إلى رسول الله ﷺ بأطفالهم فقالوا : هل على هؤلاء ذنب ؟
قال :"لا" قالوا : والله ما نحن إلا كهيئتهم ما عملنا بالنهار كفر عنا بالليل وما عملنا بالليل كفر عنا بالنهار.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٥٤
ويدخل في الآية كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند الله إلا إذا كان لغرض صحيح وطابق الواقع كقول سيدنا يوسف ﷺ ﴿اجعلني على خزائن الأرض، إني حفيظ عليم﴾ (يوسف، ٥٥)، وقوله ﷺ "إني أمين في السماء أمين في الأرض" حين قال له المنافقون : اعدل في القسمة إكذاباً لهم إذ وصفوه بخلاف ما وصفه به ربه، ولكن شتان بين من شهد الله له بالتزكية ومن شهد لنفسه أو شهد له من لا يعلم ﴿بل الله﴾ الذي له صفات الكمال ﴿يزكي من يشاء﴾ أي : بماله من العلم التامّ والقدرة الشاملة والحكمة البالغة، وأصل التزكية نفي ما يستقبح فعلاً أو قولاً ﴿ولا يظلمون﴾ أي : ينقصون من أعمالهم ﴿فتيلاً﴾ أي : قدر ما يكون في شق النواة قاله عكرمة عن ابن عباس، فهو اسم لما في شق النواة، والقطمير اسم للقشرة التي على النواة، والنقير اسم للنقطة التي تكون على ظهر النواة، وقيل : الفتيل من الفتل وهو ما
٣٥٦
يحصل بين الإصبعين من الوسخ عند الفتل.
ولما أخبر سبحانه وتعالى أنّ التزكية إنما هي إليه قال لنبيه صلى الله عليه وسلم
﴿انظر﴾ متعجباً ﴿كيف يفترون﴾ أي : يتعمدون ﴿على الله﴾ الذي لا يخفى عليه شيء ولا بعجزه شيء ﴿الكذب﴾ من غير خوف منهم لذلك عاقبة ذلك ﴿وكفى به﴾ أي : بهذا الكذب ﴿إثماً مبيناً﴾ أي : بيناً واضحاً.
﴿ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت﴾ وهما صنمان بمكة لقريش وذلك أنّ كعب بن الأشرف خرج في سبعين راكباً من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشاً على رسول الله ﷺ وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله ﷺ فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دور قريش فقال أهل مكة : إنكم أهل كتاب ومحمد صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكراً منكم فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم، ففعلوا فهذا إيمانهم بالجبت والطاغوت ؛ لأنهم سجدوا للأصنام وأطاعوا إبليس فيما فعلوا، ثم قال أبو سفيان لكعب : إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أمّيون لا نعلم فأينا أهدى طريقاً نحن أم محمد ؟
قال كعب : اعرضوا عليّ دينكم فقال أبو سفيان : نحن ولاة البيت نسقي الحجاج الماء، ونقري الضيف، ونفك العاني، ونصل الرحم، ونعمر بيت ربنا، ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمد فارق دين آبائه، وقطع الرحم، وفارق الحرم، وديننا القديم ودين محمد الحديث، فقال كعب : أنتم والله أهدى سبيلاً مما عليه محمد فأنزل الله تعالى :﴿ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً﴾ أي : حظاً من الكتاب وهم كعب بن الأشرف وأصحابه يؤمنون بالجبت والطاغوت إي الصنمين ﴿ويقولون للذين كفروا﴾ وهم أبو سفيان وأصحابه ﴿هؤلاء﴾ أي : أنتم ﴿أهدى من الذين آمنوا﴾ وهم محمد وأصحابه ﴿سبيلاً﴾ أي : أقوم ديناً وأرشد طريقاً.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٥٤
﴿أولئك الذين لعنهم الله﴾ أي : طردهم وأبعدهم من رحمته ﴿ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً﴾ أي : مانعاً يمنع العذاب عنه بشفاعة أو غيرها.


الصفحة التالية
Icon