والعرب قد تخاطب الواحد بلفظ الجمع ﴿ظالمي أنفسهم﴾ أي : في حال ظلمهم أنفسهم بترك الهجرة وموافقة الكفرة بالمقام في دار الشرك فإنّ الهجرة كانت واجبة قبل فتح مكة ثم نسخ الوجوب بعد فتحها فقال ﷺ "لا هجرة بعد الفتح" وقرأ البزيّ بتشديد التاء المثناة فوق من توفاهم في الوصل، والباقون بالتخفيف، وأدغم أبو عمرو التاء في الظاء بخلاف عنه، والباقون بغير إدغام ﴿قالوا﴾ أي : الملائكة لهم ﴿فيم كنتم﴾ أي : في أي شيء كنتم من أمر دينكم، وقرأ البزيّ (فيمه) بالهاء بعد الميم في الوقف بخلاف عنه ﴿قالوا﴾ معتذرين مما وبخوا به ﴿كنا مستضعفين﴾ أي : عاجزين عن إظهار الدين وإعلاء كلمته ﴿في الأرض﴾ أي : في أرض مكة ﴿قالوا﴾ أي : الملائكة تكذيباً لهم وتوبيخاً ﴿ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها﴾ من أرض الكفر إلى بلد أخرى كما فعل غيركم من المهاجرين إلى المدينة والحبشة، قال تعالى :﴿فأولئك مأواهم جهنم﴾ أي : لتركهم الواجب ومساعدتهم الكفار ﴿وساءت مصيراً﴾ أي : جهنم، وفي الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه، وعن النبيّ ﷺ "من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان ما بينهما شبراً استوجبت أي : وجبت له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد ﷺ. ثم استثنى أهل العذر منهم فقال :
﴿إلا المستضعفين﴾ أي : الذين وجد ضعفهم في نفس الأمر وعدّوا ضعفاء وتقوّى عليهم غيرهم ﴿من الرجال والنساء والولدان﴾ ثم بين ضعفهم بقوله :﴿لا يستطيعون حيلة﴾ أي : لا قوّة لهم على الهجرة ولا نفقة لهم ﴿ولا يهتدون سبيلاً﴾ أي : طريقاً إلى أرض الهجرة.
﴿فأولئك عسى الله أن يعفو﴾ أي : يتجاوز ﴿عنهم﴾ وعسى من الله واجب للإطماع والله
٣٧٧
تعالى إذا أطمع عبده بشيء أوصله إليه ولكن في ذكر الإطماع والعفو إيذان بأن أمر الهجرة مضيق لا توسعة فيه حتى أنّ المضطرّ البين الاضطرار من حقه أن يقول : عسى الله أن يعفو عني فكيف بغيره ﴿وكان الله عفوّاً غفوراً﴾ قال ابن عباس : كنت أنا وأمي ممن عذر الله أي : من المستضعفين وكان ﷺ يدعو لهؤلاء المستضعفين في كل صلاة، قال أبو هريرة : كان إذا قال : سمع الله لمن حمده في الركعة الأخيرة من صلاة العشاء قنت يقول :"اللهمّ أنج عياش بن ربيعة اللهمّ أنج الوليد بن الوليد اللهمّ أنج سلمة بن هشام اللهمّ أنج المستضعفين من المسلمين، اللهمّ اشدد وطأتك على مضر، اللهمّ اجعلها عليهم سنين كسني يوسف".
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٧٦
ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً﴾
أي : متحوّلاً يتحوّل إليه، وقيل : طريقاً يراغم بسلوكه قومه أي : يفارقهم على رغم أنوفهم مأخوذ من الرغام، والرغم الذل والهوان، وأصله لصوق الأنف بالرغام وهو التراب يقال : راغمت الرجل إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك ﴿و﴾ يجد ﴿سعة﴾ في الرزق كما قال ﷺ "صوموا تصحوا وسافروا تغنموا" أخرجه الطبرانيّ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ولفظه "واغزوا تغنموا وهاجروا تفلحوا" ولما سمع هذه الآية رجل من بني قيس يقال له : جندب بن ضمرة قال : ما أنا ممن استثنى الله عز وجل وإني لأجد حيلة ولي من المال ما يبلغني المدينة وأبعد منها والله لا أبيت الليلة بمكة اخرجوني فخرجوا به يحملونه على سرير حتى أتوا به التنعيم فأدركه الموت فصفق بيمينه على شماله ثم قال : اللهمّ هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما يبايعك عليه رسولك فمات، قال التفتازانيّ : الظاهر أنّ هذه إشارة إلى اليمين وهذه إلى الشمال لا قصد إسناد الجارحة إلى الله تعالى بل على سبيل التصوير وتمثيل مبايعة الله تعالى على الإيمان والطاعة بمبايعة رسول الله ﷺ إياه، وقيل : إشارة إلى البيعة والصفقة، والمعنى : أن بيعته كبيعة رسول الله ﷺ لا بيعة كبيعة الناس فبلغ خبره أصحاب رسول الله ﷺ فقالوا : لو وافى المدينة كان أتمّ وأوفى أجراً وضحك المشركون وقالوا : ما أدرك هذا ما طلب فنزل ﴿ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت﴾ أي : في الطريق قبل مقصده ﴿فقد وقع أجره على الله﴾ أي : ثبت أجره عنده تعالى ثبوت الأجر الواجب تفضلاً منه ورحمة ﴿وكان الله غفوراً﴾ لتقصيره إن كان ﴿رحيماً﴾ يكرم بعد المغفرة بأنواع الكرامات.
ولما أوجب الله السفر للجهاد والهجرة وكان مطلق السفر مظنة المشقة فكيف بسفرهما مع ما ينضم إلى المشقة فيهما من خوف الأعداء ذكر تخفيف الصلاة بالقصر بقوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon