﴿وإذا ضربتم﴾ أي : سافرتم ﴿في الأرض﴾ سفراً طويلاً لغير معصية، والطويل عند الشافعيّ رحمه الله تعالى أربعة برد وهي مرحلتان كما ثبت ذلك بالنسبة، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ثلاثة أيام ولياليهنّ بسير الإبل ومشي الأقدام على القصد، وقوله تعالى :﴿فليس عليكم جناح﴾ أي : إثم وميل في ﴿أن تقصروا من الصلاة﴾ أي : من أربع إلى ركعتين، وذلك في صلاة الظهر والعصر والعشاء يدل على جواز القصر دون وجوبه، ويؤيده أنه عليه الصلاة والسلام أتم في السفر كما رواه الشافعيّ وغيره.
٣٧٨
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها : اعتمرت مع رسول الله ﷺ من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وصمت وأفطرت فقال :"أحسنت يا عائشة وما عاب عليّ" رواه الدارقطني وحسنه البيهقيّ وصححه، وكان عثمان رضي الله تعالى عنه : يتم ويقصر، وأوجب القصر أبو حنيفة لقول عمر رضي الله تعالى عنه : صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم، رواه النسائيّ وابن ماجة، ولقول عائشة رضي الله تعالى عنها :"أوّل ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين فأقرّت في السفر وزيدت في الحضر" رواه الشيخان.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٧٦
فإن قيل : ظاهرهما يخالف الآية ؟
أجيب : بأنّ الأوّل مؤوّل بأنّ القصر كالتمام في الصحة والإجزاء، ومعنى الثاني لمن أراد الاقتصار عليهما جمعاً بين الأدلة، وقوله تعالى :﴿إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا﴾ أي : ينالوكم بمكروه بيان باعتبار الغالب في ذلك الوقت فلا مفهوم له، قال يعلى بن أمية : قلت لعمر : إنما قال الله تعالى :﴿إن خفتم﴾ وقد أمن الناس قال : قد عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله ﷺ فقال :"صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" رواه مسلم ﴿إنّ الكافرين كانوا﴾ أي : جبلة وطبعاً ﴿لكم عدوّاً مبيناً﴾ أي : بين العداوة وقوله تعالى :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٧٦
٣٧٩
﴿وإذا كنت﴾ أي : يا محمد حاضراً ﴿فيهم﴾ أي : وأنتم تخافون العدوّ ﴿فأقمت لهم الصلاة﴾ تمسك بمفهومه من خص صلاة الخوف بحضرة النبيّ ﷺ وعامّة الفقهاء على أنه تعالى علم نبيه ﷺ كيفيتها ليقتدي به الأئمة بعده فإنهم نوّاب عنه فيكون حضورهم كحضوره.
روي أنّ المشركين لما رأوا رسول الله ﷺ وأصحابه قاموا إلى الظهر يصلون جميعاً ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم فقال بعضهم لبعض : دعوهم فإنّ لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم وهي صلاة العصر فإذا قاموا فيها فشدّوا عليهم فاقتلوهم فنزل جبريل فقال : يا محمد إنها صلاة الخوف وإنّ الله يقول :﴿وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة﴾ فعلمه صلاة الخوف وهي أنواع :
الأوّل : إذا كان العدو في جهة القبلة وسائر والمسلمون كثيرون فيصلي بهم الإمام ثم يسجد بصف أوّل ويحرس صف ثانٍ، فإذا قاموا سجد من حرس ولحقه وسجد معه بعد تقدّمه وتأخر الأوّل بلا كثرة أفعال في الركعة الثانية، وحرس الآخرون فإذا جلس للتشهد جلس الآخرون وتشهد وسلم بالجميع، روى هذا النوع مسلم، وقد صلاه رسول الله ﷺ بعسفان، وهي قرية على مرحلتين من مكة بقرب خليص سميت بذلك لعسف السيول فيها وجاز عكس هذه الكيفية.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٧٩
والنوع الثاني : إذا كان العدو في غير جهة القبلة أو فيها، وثم ساتر، فيصلي الإمام بهم ركعتين مرّتين كلّ مرة بفرقة كما قال تعالى :﴿فلتقم طائفة منهم معك﴾ أي : وتتأخر طائفة ﴿وليأخذوا﴾ أي : الطائفة التي قامت معك ﴿أسلحتهم﴾ معهم ﴿فإذا سجدوا﴾ أي : صلوا ﴿فليكونوا﴾ أي : هذه الطائفة الأخرى ﴿من ورائكم﴾ يحرسون إلى أن تقضوا الصلاة وتذهب هذه الطائفة الأخرى تحرس ﴿ولتأت طائفة أخرى﴾ تحرس ﴿لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم﴾ معهم إلى أن يقضوا الصلاة "وقد فعل ﷺ ذلك ببطن نخل"، رواه الشيخان وهذه الصلاة وإن جازت في غير الخوف سنت فيه عند كثرة المسلمين، وقلة عدوّهم، وخوف هجومهم عليهم في الصلاة.
فإن قيل : أخذ الحذر وهو الخوف مع التحفظ مجاز، وأخذ الأسلحة حقيقة، فلا يجمع بينهما أجيب : بأنّ أخذ الحذر حقيقة أيضاً تنزيلاً له منزلة الآلة على سبيل الاستعارة بالكناية، فالجمع إنما هو بين حقيقتين على أنّ الجمع بين الحقيقتين على أنّ الجمع بين الحقيقة، والمجاز جائز كما عليه الشافعي رضي الله تعالى عنه.
فإن قيل : لم ذكر أخذ الحذر في الثانية دون الأولى ؟
أجيب : بأنّ الكفار يتنبهون للثانية ما لا يتنبهون للأولى.


الصفحة التالية
Icon