إنا أنزلنا إليك الكتاب} أي : القرآن وقوله تعالى :﴿بالحق﴾ متعلق بأنزل ﴿لتحكم بين الناس بما أراك﴾ الله أي : عرفك وأوحى به إليك وليس أرى من الرؤية بمعنى العلم وإلا لاستدعى ثلاثة مفاعيل، وعن عمر رضي الله تعالى عنه لا يقولنّ أحدكم قضيت بما أراني الله فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه ولكن ليجتهد رأيه ؛ لأن الرأي من رسول الله ﷺ كان مصيباً ؛ لأن الله تعالى كان يريه إياه وهو منا الظن والتكليف.
وروى الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار يقال له طعمة بكسر الطاء وفتحها، والأوّل أفصح ابن أبيرق من بني ظفر بن الحارث سرق درعاً من جار له يقال له : قتادة بن النعمان وكانت الدرع في جراب فيه دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه حتى انتهى إلى الدار، ثم أخبأها عند رجل من اليهود يقال له : زيد بن السمين فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد وحلف ما أخذها وماله بها علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوها فقال : دفعها إليّ طعمة وشهد له ناس من اليهود فقالت بنو ظفر : انطلقوا بنا إلى رسول الله ﷺ واسألوه أن يجادل عن صاحبهم فقالوا : إن لم تفعل افتضح صاحبنا فهمّ رسول الله ﷺ أن يفعل ؛ لأنه بريء بحلفه وأن يعاقب اليهودي لثبوت المال عنده، وقيل : همّ أن يقطع يده فقال تعالى :﴿ولا تكن للخائنين﴾ كطعمة ﴿خصيماً﴾ أي : مخاصماً مدافعاً عنهم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٧٩
﴿واستغفر الله﴾ أي : مما هممت به أي : من الذب عنه وهذا الاستغفار لا عن ذنب إذ هو منزه عن ذلك معصوم، ولكن عن مقام عال سام للارتقاء إلى أعلى منه وأتم ﴿إنّ الله كان غفوراً رحيماً﴾ لمن يستغفره.
﴿ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم﴾ أي : يخونونها بالمعاصي ؛ لأنّ وبال خيانتهم عليهم.
فإن قيل : لم قال ﴿للخائنين﴾ و ﴿يختانون﴾ أنفسهم والخائن واحد فقط ؟
أجيب : بأنه جمع ليتناول طعمة وكل من خان خيانته أو ليتناوله وقومه فإنهم شاركوه في الإثم حين شهدوا على براءته وخاصموا عنه، وقيل : إنّ هذا خطاب مع ﷺ والمراد به غيره كقوله تعالى :﴿فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك﴾ (يونس، ٩٤)
والاستغفار في حق الأنبياء بعد النبوّة على أحد وجوه ثلاثة : إمّا الذنب تقدّم على النبوّة، أو لذنوب أمّته، أو لمباح جاء الشرع بتحريمه، فيتركه بالاستغفار، فالاستغفار
٣٨٢
يكون معناه السمع والطاعة لحكم الشرع ﴿إنّ الله لا يحب﴾ أي : يعاقب ﴿من كان خوّاناً﴾ أي : كثير الخيانة ﴿أثيماً﴾ أي : منهمكاً فيه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٨٢
روي أنّ طعمة هرب إلى مكة وارتدّ وثقب حائطاً ليسرق متاع أهله فسقط الحائط عليه فقتله.
فإن قيل : لم قال خوّاناً أثيماً على المبالغة ؟
أجيب : بأنّ الله تعالى كان عالماً من طعمة بالإفراط في الخيانة وركوب المأثم، ومن كانت تلك خلقة أمره لم يشك في حاله، وقيل : إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أنّ لها أخوات، وعن عمر رضي الله تعالى عنه إنه أمر بقطع يد سارق، فجاءت أمّه تبكي وتقول : هذه أوّل سرقة سرقها فاعف عنه فقال : كذبت إنّ الله لا يؤاخذ عبده في أوّل مرّة.
﴿يستخفون﴾ أي : طعمة وقومه يستترون ويستحيون ويخافون ﴿من الناس ولا يستخفون﴾ أي : ولا يستحيون ولا يخافون ﴿من الله﴾ وهو أحق أن يستحيا ويخاف منه ﴿وهو معهم﴾ بعلمه لا يخفى عليه سرهم ﴿إذ يبيتون﴾ أي : يدبرون ليلاً على طريق الإمعان في الكفر والإتقان للرأي ﴿ما لا يرضى من القول﴾ أي : من رمي اليهودي بالسرقة وشهادة الزور عليه والحلف الكاذب على نفيها.
فإن قيل : لم سمى التدبير قولاً، وإنما هو معنى في النفس ؟
أجيب : بأنه لما حدث بذلك نفسه سمي قولاً مجازاً. قال في الكشاف : ويجوز أن يراد بالقول الحلف الكاذب الذي حلف به بعد أن بيّنه ﴿وكان الله بما يعملون محيطاً﴾ أي : علماً وقدرة لا يفوت عنه شيء وقوله تعالى :
﴿ها أنتم هؤلاء﴾ خطاب لقوم طعمة أي : يا هؤلاء ﴿جادلتم﴾ أي : خاصمتم ﴿عنهم﴾ أي : عن طعمة وذويه ﴿في الحياة الدنيا﴾ أي : بما جعل لكم من الأسباب ﴿فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة﴾ إذا عذبهم ﴿أم من يكون عليهم وكيلاً﴾ يتولى أمرهم ويذب عنهم أي : لا أحد يفعل ذلك.
فائدة : اتفق كتاب المصاحف على قطع (أم) عن (من)


الصفحة التالية
Icon