ونزل لما افتخر المسلمون وأهل الكتاب وهم اليهود والنصارى فقال أهل الكتاب : نبيِّنا قبل نبيِّكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون : نبيِّنا خاتم الأنبياء وكتابنا يقضي على الكتب وقد آمنا بكتابكم ولم تؤمنوا بكتابنا فنحن أولى.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٨٦
ليس﴾
أي : الأمر منوطاً ﴿بأمانيكم﴾ أيها المسلمون ﴿ولا أمانيّ أهل الكتاب﴾ بل بالإيمان والعمل الصالح ﴿من يعمل سوأً يجز به﴾ قال ابن عباس لما نزلت هذه شقت على المسلمين وقالوا : يا رسول الله أينا لم يعمل سوأً غيرك فكيف الجزاء ؟
قال : منه ما يكون في الدنيا أي : بالبلاء والمحن كما ورد في الحديث :"فمن يعمل حسنة فله عشر أمثالها ومن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشرة وبقي له تسع حسنات، فويل لمن غلبت آحاده أعشاره" وأمّا ما كان جزاء في الآخرة فيقابل بين حسناته وسيئاته فيلقى مكان كل سيئة حسنة وينظر في الفضل فيعطي الجزاء في الجنة فيؤتي كل ذي فضل فضله، وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال : كنت عند رسول الله ﷺ فأنزلت عليه ﴿من يعمل سوأً يجز به﴾ ﴿ولا يجد له من دون الله﴾ أي : غيره ﴿ولياً﴾ أي : يحفظه ﴿ولا نصيراً﴾ أي : يمنعه منه قال رسول الله ﷺ "يا أبا بكر ألا أقرئك آية نزلت عليّ ؟
" قلت : بلى يا رسول الله قال : فأقرأنيها قال : ولا أعلم أني قد وجدت انفصاماً في ظهري حتى تمطيت لها فقال رسول الله ﷺ مالك يا أبا بكر فقلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي وأينا لم يعمل سوءاً وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه ؟
فقال رسول الله ﷺ "أمّا أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا" أي : بالبلاء والمحن كما مرّ حتى تلقوا الله وليس لكم ذنوب، "وأمّا الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا يوم القيامة".
﴿ومن يعمل﴾ شيئاً ﴿من الصالحات﴾ فإن كل أحد لا يتمكن من كلها وليس مكلفاً بها وقوله تعالى :﴿من ذكر أو أنثى﴾ في موضع الحال من المستكن في يعمل ومن للبيان أو من الصالحات أي : كائنة من ذكر أو أنثى ومن للابتداء وقوله تعالى :﴿وهو مؤمن﴾ حال شرط اقتران العمل بها في استدعاء الثواب المذكور تنبيهاً على أنه لا اعتداد بالعمل الصالح دون اقتران بها ﴿فأولئك﴾ أي : العالو الرتبة ﴿يدخلون﴾ أي : ندخلهم ﴿الجنة﴾ أي : الموصوفة ﴿ولا يظلمون نقيراً﴾ قدر نقرة النواة من ثواب أعمالهم وإن لم ينقص ثواب المطيع فبالحرى أن لا يزاد عقاب العاصي ؛ لأنّ المجازي هو أرحم الراحمين، ولذلك اقتصر على ذكره عقب الثواب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وشعبة بضم الياء وفتح الخاء، والباقون بفتح الياء وضم الخاء.
﴿ومن﴾ أي : لا أحد ﴿أحسن ديناً ممن أسلم وجهه﴾ أي : انقاد وأخلص عمله ﴿﴾ فلا حركة ولا سكون إلا فيما يرضاه، وفي هذا الاستفهام تنبيه على أنّ ذلك منتهى ما تبلغه القوّة البشرية ﴿وهو﴾ أي : والحال أنه ﴿محسن﴾ أي : مؤمن مراقب آت بالحسنات تارك للسيآت، لأنه يعبد الله كأنه يراه، وقد اشتملت هذه الكلمات العشر على الدين كله أصلاً وفرعاً مع الترغيب بالمدح
٣٨٧
الكامل لمتبعه وإفهام الذمّ الكامل لغيره ﴿واتبع ملة إبراهيم﴾ أي : الموافقة لملة الإسلام وقوله تعالى :﴿حنيفاً﴾ حال أي : مائلاً عن الأديان كلها إلى الدين القيّم ﴿واتخذ إبراهيم خليلاً﴾ أي : صفياً خالص المحبة له، وإنما أعاد ذكره، ولم يضمره تفخيماً له، وتنصيصاً على أنه الممدوح، والخلة من الخلال فإنه ودّ تخلل النفس وخالطها، قال الزجاج : الخليل الذي ليس في محبته خلل، والخلة الصداقة فسمي خليلاً ؛ لأن الله تعالى أحبه واصطفاه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٨٦
روي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يسمى أبا الضيفان وكان منزله على ظهر الطريق يضيف من مر به من الناس فأصاب الناس سنة فحشروا إلى باب إبراهيم يطلبون الطعام وكانت الميرة له كل سنة من صديق له بمصر فبعث غلمانه بالإبل إلى الخليل الذي بمصر فقال خليله لغلمانه : لو كان إبراهيم يريده لنفسه لفعلت ولكن يريده للأضياف وقد أصباننا ما أصاب الناس من الشدّة، فرجع غلمانه فمرّوا ببطحاء أي : بأرض ذات حصى فقالوا : لو أنا حملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة فإنا نستحيي أن نمرّ بهم وإبلنا فارغة فملؤا تلك الغرائر ثم أتوا إبراهيم فلما أخبروه بذلك وسارة نائمة ساءه الخبر فغلبته عيناه فنام واستيقظت سارة وقد ارتفع النهار فقالت : سبحان الله ما جاء الغلمان قالوا : بلى فقامت إلى الغرائر ففتحتها فإذا هو أجود حوّاري أي : وهو بضم الحاء المهملة وتشديد الواو وفتح الراء، الدقيق الذي نخل مرّة بعد أخرى، فأمرت الخبازين فخبزوا وأطعموا الناس، فاستيقظ إبراهيم فوجد رائحة الخبز فقال : من أين هذا لكم ؟
فقالت : من خليلك المصري فقال : بل من عند خليلي الله عز وجل، فسماه الله خليلاً.


الصفحة التالية
Icon