روى النسائي عن ابن عباس :"أنّ رهطاً من اليهود سبوه وسبوا أمّه فدعا عليهم فمسخهم الله قردة وخنازير فاجتمعت اليهود على قتله فأخبره الله تعالى بأنه يرفعه إلى السماء ويطهره من صحبة اليهود فقال لأصحابه : أيكم يرضى أن يلقى الله عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنة ؟
فقال رجل منهم : أنا فألقى الله عليه شبهه فقتل وصلب". وقيل : كان رجلاً ينافق عيسى أي : يظهر له الإسلام ويخفي الكفر فلما أرادوا قتله قال : أنا أدلكم عليه فدخل في بيت عيسى فرفع عيسى عليه الصلاة والسلام، وألقى الله شبهه على المنافق فدخلوا عليه فقتلوه وصلبوه وهم يظنون أنه عيسى.
وقيل : إنهم حبسوا عيسى عليه الصلاة والسلام في بيت وجعلوا عليه رقيباً فألقى الله شبه عيسى على الرقيب فقتلوه، ﴿وإنّ الذين اختلفوا فيه﴾ أي : في شأن عيسى، فإنه لما وقعت تلك الواقعة اختلف الناس، فقال بعض اليهود : إنه كان كاذباً فقتلناه حقاً، وتردد آخرون، وقال بعضهم : إن كان هذا عيسى، فأين صاحبنا ؟
وقال بعضهم : الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا، وكان الله ألقى شبه وجه عيسى عليه ولم يلق على جسده، وقال : من سمع من عيسى إنّ الله يرفعني إلى السماء إنه رفعه إلى السماء : وقال قوم : صلب الناسوت أي : الإنسانية وصعد اللاهوت أي : الألوهية ﴿لفي شك منه﴾ أي : من قتله ﴿ما لهم به﴾ أي : بقتله ﴿من علم﴾ وقوله تعالى :﴿إلا إتباع الظن﴾ استثناء منقطع أي : لكن يتبعون فيه الظنّ الذي تخيلوه.
فإن قيل : قد وصفوا بالشك والشك أن لا يترجح أحد الجائزين ثم وصفوا بالظنّ والظنّ أن يترجح أحدهما، فكيف يكونون شاكين ظانين ؟
أجيب : بأنّ الشك كما يطلق على ما لا يترجح أحد طرفيه يطلق على مطلق التردّد وعلى ما يقابل العلم فيشمل الاعتقاد ﴿وما قتلوه﴾ أي : انتفى قتلهم له انتفاء ﴿يقيناً﴾ أي : انتفاؤه على سبيل القطع ويجوز أن يكون حالاً من واو قتلوه أي : ما فعلوا القتل متيقنين أنه عيسى عليه الصلاة والسلام بل فعلوه شاكين، فيه والحق إنهم لم يقتلوا إلا الرجل الذي ألقى عليه شبهه. قال البقاعي : والوجه الأوّل أولى لقوله تعالى :
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٩٦
بل رفعه الله إليه﴾
أي : إلى مكان لا يصل إليه حكم آدمي، وعن وهب : إنه أوحي إليه وهو ابن ثلاثين سنة ورفع وهو ابن ثلاث وثلاثين، فكانت رسالته ثلاث سنين ﴿وكان الله عزيزاً﴾ أي : في ملكه لا يغلب عما يريد ﴿حكيماً﴾ في صنعه لا يطمع أحد في نقص شيء منه.
﴿وإن من أهل الكتاب﴾ أي : وما من أهل الكتاب أحد ﴿إلا ليؤمنن به﴾ أي : بعيسى عليه الصلاة والسلام هذا قول أكثر المفسرين وأهل العلم ﴿قبل موته﴾ اختلف في عود هذا الضمير، فقال عكرمة ومجاهد والضحاك : يعود للكتابي أي : إنّ الكتابي يؤمن بعيسى حين يعاين ملائكة الموت فلا ينفعه إيمانه سواء احترق أو غرق أو تردى أو سقط عليه جدار أو أكله سبع أو مات فجأة، فقيل لابن عباس : أرأيت من خرّ من فوق بيت ؟
فقال : يتكلم به في الهوي، فقيل : أرأيت إن ضرب عنق أحدهم ؟
قال : يتلجلج بها لسانه، وذهب قوم إلى عود الضمير إلى عيسى أي : وما من
٣٩٨
أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وذلك عند نزوله من السماء في آخر الزمان، فلا يبقى أحد إلا آمن به حتى تكون الملة واحدة ملة الإسلام.
روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله ﷺ "يوشك أن ينزل فيكم عيسى بن مريم حكماً عدلاً يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، ويهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويقتل الدجال فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون".
قال أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم ﴿وإن من أهل الكتاب﴾ الآية ثم أعادها أبو هريرة ثلاث مرّات ولا يعارض هذا ما في مسلم في قصة الدجال إنّ الله يبعث عيسى بن مريم فيطلبه فيهلكه، ثم يلبث الناس بعده سبع سنين ليس بين إثنين عداوة ؛ لأنّ قوله : ثم يلبث الناس بعده أي : بعد موته فلا معارضة، أو لأنّ السبع محمول على مدّة إقامته بعد نزوله ويكون ذلك مضافاً إلى مكثه فيها قبل رفعه إلى السماء وكان عمره إذ ذاك ثلاثاً وثلاثين سنة على المشهور.
وروى عكرمة : إن الهاء في قوله تعالى :﴿ليؤمنن به﴾ كناية عن محمد ﷺ يقول : لا يموت كتابي حتى يؤمن بمحمد ﷺ وقيل : الهاء راجعة إلى الله عز وجل يقول : وإنّ من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بالله عز وجل قبل موته عند المعاينة حين لا ينفعه إيمانه ﴿ويوم القيامة يكون﴾ أي : عيسى على القول الأوّل ﴿عليهم شهيداً﴾ إنه قد بلغهم رسالة ربه وأقرّ بالعبودية على نفسه كما قال تعالى مخبراً عنه :﴿وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم﴾ (المائدة/ ١١٧). وكل نبيّ شاهد على أمّته قال تعالى :﴿فكيف إذا جئنا من كل أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً﴾ (النساء، ٤١).
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٩٦


الصفحة التالية
Icon