﴿يا أهل الكتاب لا تغلوا﴾ أي : تجاوزوا الحد ﴿في دينكم﴾ الخطاب للفريقين غلت اليهود في حط عيسى حتى رموه بالزنا، والنصارى في رفعه حتى اتخذوه إلهاً، وقيل : للنصارى خاصة، والمراد بالكتاب الإنجيل، فإنه أوفق لقوله تعالى :﴿ولا تقولوا على الله إلا﴾ القول ﴿الحق﴾ أي : من تنزيهه عن الشريك والولد ﴿إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها﴾ أي : أوصلها ﴿إلى مريم﴾ وجعلها فيها ﴿وروح﴾ أي : ذو روح ﴿منه﴾ لا بتوسط ما يجري مجرى الأصل والمادّة له، وسمى عيسى كلمة الله وكلمة منه ؛ لأنه وجد بكلمته وأمره لا غير من غير واسطة أب ولا نطفة، وقيل له : روح الله وروح منه ؛ لأنه ذو روح وجسد من غير جزء من ذي روح كالنطفة المنفصلة من الأب الحيّ، وإنما اخترع اختراعاً من عند الله وقدرته بأن أمر جبريل، فنفخ
٤٠٢
في جيب درعها، فحملت به فأضيف إلى الله تعالى تشريفاً له، وليس كما زعمتم أنه ابن الله، أو إله معه، أو ثالث ثلاثة ؛ لأنّ الروح مركب، والإله منزه عن التركيب وعن نسبة المركب إليه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٠٢
روي أنه ﷺ قال :"من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأنّ عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل" ﴿فآمنوا با ورسله﴾ أي : عيسى وغيره ولا تؤمنوا ببعض وتكفروا ببعض ﴿ولا تقولوا﴾ كما قالت النصارى : الآلهة ﴿ثلاثة﴾ الله وعيسى وأمه، قال تعالى :﴿انتهوا﴾ عن ذلك وائتوا ﴿خيراً لكم﴾ من ذلك وهو التوحيد ﴿إنما الله إله واحد﴾ أي : لا تعدّد فيه بوجه مّا ﴿سبحانه﴾ تنزيهاً له ﴿أن﴾ أي : عن أن ﴿يكون له ولد﴾ أي : كما قلتم أيها النصارى، فإنّ ذلك يقتضي الحاجة ويقتضي التركيب والمجانسة، ثم علل ذلك بقوله :﴿له ما في السموات وما في الأرض﴾ خلقاً وملكاً، فلا يتصوّر أن يحتاج إلى شيء منهما، ولا إلى شيء متحيّز فيهما، ولا يصح بوجه أن يكون بعض ما يملكه المالك جزأ منه وولداً له ؛ لأنّ المكية تنافي البنوة، وعيسى وأمه كل منهما محتاج إلى ما في الوجود ﴿وكفى با وكيلاً﴾ أي : يحتاج إليه كل شيء ولا يحتاج هو إلى شيء، فهو غني عن الولد، فإنّ الحاجة إليه ليكون وكيلاً لأبيه، والله سبحانه وتعالى قائم بحفظ الأشياء كافٍ في ذلك مستغن عمن يخلفه أو يعينه.
روي أنّ وفد نجران قالوا : يا رسول الله لم تعيب صاحبنا ؟
قال :"ومن صاحبكم ؟
" قالوا : عيسى قال :"وأيّ شيء أقول ؟
" قالوا : تقول إنه عبد الله قال :"إنه ليس بعار أن يكون عبداً لله" قالوا : بلى، فنزل قوله تعالى :
﴿لن يستنكف﴾" أي : يتكبر ويأنف ﴿المسيح﴾ أي : الذي زعمتم إنه إله ﴿أن﴾ أي : عن أن ﴿يكون عبد الله﴾ فإنّ عبوديته له شرف يتباهى به وإنما المذلة والاستنكاف في عبودية غيره وقوله تعالى :﴿ولا الملائكة المقرّبون﴾ أي : عند الله عطف على المسيح أي : ولا تستنكف الملائكة المقربون أن يكونوا عبيداً لله، وهذا من أحسن الاستطراد ذكر للرد على من زعم إنها آلهة أو بنات الله كما ردّ بما قبله على النصارى الزاعمين ذلك المقصود خطابهم، فلا حجة فيه على أن الملائكة أفضل من الأنبياء كما زعمه بعض المعتزلة قائلاً بأنّ المعطوف أعلى درجة من المعطوف عليه.
قال الطيبي : وإنما تنهض الحجة على النصارى إذا سلموا أن الملائكة أفضل من عيسى ودونه خرط القتاد، فكيف والنصارى رفعوا درجة عيسى إلى الإلهية، فظهر أن ذكر الملائكة للاستطراد كما ردّ على النصارى وأنه من باب التتميم لا من باب الترقي اه. أو من باب الترقي في الخلق لا في المخلوق كما قاله البقاعي، قال : لأن الملائكة أعجب خلقاً من عيسى في كونهم ليسوا من ذكر ولا أنثى، ولا ما يجانس عضو البشر فكانوا لذلك أعجب خلقاً من آدم عليه الصلاة والسلام أيضاً أو في القوّة ؛ لأنهم أقوى من عيسى ؛ لأنهم يقتلعون الجبال ويأتون بالمياه العظيمة والعبادات الدائمة المستمرّة ﴿ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر﴾ أي : يطلب الكبر عن ذلك قال الراغب : الاستنكاف تكبر في أنفة والاستكبار بخلافه ﴿فسيحشرهم﴾ أي : المستكبرين وغيرهم ﴿إليه جميعاً﴾ في الآخرة بوعد لا يخلف فيجازيهم.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٠٢
فأمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾
تصديقاً لإقرارهم بالإيمان ﴿فيوفيهم أجورهم﴾ أي :
٤٠٣
ثواب أعمالهم ﴿ويزيدهم من فضله﴾ أي : ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ﴿وأما الذين استنكفوا واستكبروا﴾ عن عبادته ﴿فيعذبهم عذاباً أليماً﴾ أي : مؤلماً هو عذاب النار بما وجدوا من لذاذة الترفع والتكبر ﴿ولا يجدون لهم﴾ أي : حالاً ولا مآلاً ﴿من دون الله﴾ أي : غيره ﴿ولياً﴾ يدفعه عنهم ﴿ولا نصيراً﴾ يمنعهم منه.


الصفحة التالية
Icon