وقوله تعالى :﴿ومن يكفر بالإيمان﴾ اختلف المفسرون في معناه فقال ابن عباس ومجاهد : ومن يكفر بالإيمان أي : بالله الذي يجب الإيمان به وإنما حسن هذا المجاز ؛ لأنه يقال : رب الإيمان ورب الشيء على سبيل المجاز، وقال الكلبي : ومن يكفر بالإيمان أي : بكلمة التوحيد وهي شهادة أن لا إله إلا الله لأنّ الإيمان من لوازمها وإطلاق الشيء على لازمه مجاز مشهور، وقال قتادة : إنّ ناساً من المسلمين قالوا : كيف نتزوّج نساءهم مع كونهم على غير ديننا ؟
فأنزل الله هذه الآية :﴿ومن يكفر﴾ بما أنزل الله في القرآن فهو كذا وكذا فسمي القرآن إيماناً ؛ لأنه مشتمل على بيان كل ما لا بد منه في الإيمان، والمراد من ذلك أن يأتي بشيء يصير به مرتداً ﴿فقد حبط﴾ أي : فسد ﴿عمله﴾ الصالح قبل ذلك إن اتصل ذلك بالموت بدليل قوله تعالى :﴿وهو في الآخرة
٤١٣
من الخاسرين﴾ وقوله تعالى في آية أخرى :﴿فيمت وهو كافر﴾ (البقرة، ٢١٧) أمّا من أسلم قبل الموت فإنّ ثوابه يفسد دون عمله فلا يجب عليه إعادة حج قد فعله ولا صلاة قد صلاها قبل الردّة.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٠٨
﴿يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة﴾ أي : أردتم القيام إليها كقوله تعالى :﴿فإذا قرأت القرآن فاستعذ با﴾ (النحل، ٩٨) عبرّ عن إرادة الفعل بالفعل المسبب عنها للإيجاز والتنبيه على أن من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة، وظاهر الآية الكريمة يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثاً، لكن صدّ عنه الإجماع لما روي أنه ﷺ صلى الخمس بوضوء واحد يوم الفتح فقال له عمر : صنعت شيئاً لم تكن تصنعه فقال :"عمداً فعلته"، فقيل : هو مطلق أريد به التقييد والمعنى : إذا قمتم إلى الصلاة محدثين وقيل : الأمر فيه للندب وقيل : كان ذلك أوّل الأمر ثم نسخ قال البيضاوي : وهو ضعيف لقوله ﷺ "المائدة من آخر القرآن نزولاً فأحلوا حلالها وحرموا حرامها" ﴿فاغسلوا وجوهكم﴾ أي : أمروا الماء عليها، ولا يجب الدّلك خلافاً لمالك رضي الله تعالى عنه ﴿و﴾ اغسلوا ﴿أيديكم إلى المرافق﴾ أي : معها إن وجدت وقدرها إن فقدت، لما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في صفة وضوء رسول الله ﷺ "إنه توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد" إلخ.. وللإجماع أوان إلى في الآية بمعنى مع كما في قوله
٤١٤
تعالى :﴿من أنصاري إلى الله﴾ (آل عمران، ٥٢) ويزدكم قوّة إلى قوّتكم أو يجعل اليد التي هي حقيقة إلى المنكب مجازاً إلى المرفق مع جعل إلى غاية للغسل الداخلة هنا في المغيّا بقرينة الإجماع والاحتياط للعبادة، والمعنى اغسلوا أيديكم من رؤوس الأصابع إلى المرافق، أو تجعل باقية على حقيقتها إلى المنكب مع جعل إلى غاية للترك المقدّر فتخرج الغاية والمعنى اغسلوا أيديكم واتركوا منها إلى المرافق، والمرافق جمع مرفق بفتح الميم وكسر الفاء على الفصيح من اللغة وهو مفصل ما بين العضد والمعصم ولو قطع بعض ما يجب غسله وجب غسل الباقي ؛ لأنّ الميسور لا يسقط بالمعسور، وإن قطع من المرفق فإن سلّ عظم الذراع وبقي العظمان المسميان برأس العضد وجب غسل رأس عظم العضد ؛ لأنه من المرفق وهو مجموع العظمين والإبرة الداخلة بينهما وإن قطع من فوق المرفق ندب غسل باقي عضده.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤١٤
وامسحوا برؤسكم﴾ أي : ببعضها. لما روى مسلم "إنه ﷺ مسح بناصيته وعلى عمامته" واكتفى بمسح البعض لأنه المفهوم من المسح عند إطلاقه ولم يقل أحد بوجوب خصوص الناصية وهي الشعر الذي بين النزعتين والاكتفاء بها يمنع وجوب الاستيعاب ويمنع وجوب التقدير بالربع أو أكثر لأنها دونه والباء إذا دخلت على متعدّد كما في الآية تكون للتبعيض أو على غيره كما في قوله تعالى :﴿وليطوفوا بالبيت العتيق﴾ (الحج، ٢٩) تكون للالصاق.
فإن قيل : صيغة الأمر بمسح الرأس والوجه في التيمم واحدة فهلا أوجبتم التعميم أيضاً ؟
أجيب : بأن المسح ثم بدل للضرورة فاعتبر ببدله ومسح الرأس أصل فاعتبر لفظه.