وثالثها : قوله تعالى :﴿وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين﴾ وذلك، لأنه تعالى خصهم بأنواع عظيمة من الإكرام كفلق البحر لهم وأهلك عدوّهم وأورثهم أموالهم وأنزل عليهم المنّ والسلوى وأخرج لهم المياه الغزيرة من الحجر وأظلّ فوقهم الغمام، ولم يجتمع الملك والنبوّة لقوم كما اجتمعا لهم، وكانوا في تلك الأيام هم العلماء بالله تعالى وهم أحباب الله وأنصار دينه، وقيل : المراد بالعالمين عالمو زمانهم. وقال الكلبيّ : إن جعلت العالمين عامّاً وجب تخصيص "ما" لئلا يلزم أنهم أوتوا ما لم تؤت هذه الأمّة من الكرامة والفضل وغير ذلك وإن خصصته بعالمي زمانهم ف "ما" باقية على عمومها إذ لا محذور.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٢٢
ولما ذكرهم هذه النعم وشرحها لهم أمرهم بعد ذلك بجهاد العدوّ فقال :
﴿يا قوم ادخلوا الأرض المقدّسة﴾ أي : المطهرة وهي أرض بيت المقدس سمّيت بذلك لأنها كانت مسكن الأنبياء والمؤمنين وقال مجاهد : هي الطور وما حوله. وقال الكلبيّ : هي دمشق وفلسطين وبعض الأردُنّ وهو بضم الدال وتشديد النون اسم نهر أو كورة بالشأم قاله الجوهريّ، وقال قتادة : هي الشأم كلها ﴿التي كتب الله لكم﴾ أي : في اللوح المحفوظ إنها لكم مساكن وقال السديّ : أمركم بدخولها.
فإن قيل : على القول الأوّل : كيف كتبها لهم بعد قوله تعالى بعد ﴿فإنها محرمة عليهم﴾ ؟
أجيب : بأجوبة أوّلها : قال ابن عباس : إنها كانت هبة ثم حرّمها عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم، ثانيها : اللفظ وإن كان عاماً لكم المراد به الخصوص فكأنها كتبت لبعضهم وحرّمت على بعضهم، ثالثها : إنّ الوعد بقوله تعالى :﴿كتب الله لكم﴾ مشروط بقيد الطاعة فلما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط، رابعها : إنها محرّمة عليهم أربعين سنة فلما مضت الأربعون حصل ما كتب ﴿ولا ترتدّوا على أدباركم﴾ أي : ولا ترجعوا مدبرين خوفاً من العدوّ ﴿فتنقلبوا خاسرين﴾ أي : في سعيكم، وذلك أنّ قوم موسى لما أخرجوا من مصر وعدهم الله تعالى إسكان أرض الشأم.
قال الكلبيّ : صعد إبراهيم عليه السلام جبل لبنان فقيل له : انظر ما أدرك بصرك فهو مقدّس وهو ميراث لذريّتك، وكان بنو إسرائيل يسمّون أرض الشأم أرض الموعد، ثم بعث موسى عليه السلام اثني عشر نقيباً ليتجسسوا لهم عن أحوال تلك الأرض فلما دخلوا تلك الأماكن رأوا أجساماً عظيمة، قال ابن عادل : قال المفسرون فأخذهم أحد أولئك الجبارين وجعلهم في كمّه مع فاكهة قد حملها، من بساتينه، وأتى بهم للملك ونثرهم بين يديه وقال تعجيباً للملك : هؤلاء يريدون قتالنا فقال الملك : ارجعوا إلى صاحبكم فأخبروه بما شاهدتم، ثم انصرف هؤلاء النقباء إلى موسى عليه السلام فأخبروه بالواقعة فأمرهم أن يكتموا ما شاهدوه فلم يقبلوا قوله إلا رجلين منهم وهما يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف فتى موسى وكالب بن يوفنا فتى موسى وكان من سبط يهوذا فإنهما سهّلا الأمر وقالا : هي بلاد طيبة كثيرة النعم والأقوام وإن كانت أجسامهم عظيمة إلا أنّ قلوبهم ضعيفة، وأمّا العشرة الباقية من النقباء فإنهم أوقعوا الجبن في قلوب الناس حتى أظهروا الامتناع ورفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا : يا ليتنا متنا في أرض مصر أو ليتنا نموت في هذه البرية
٤٢٤
ولا يدخلنا الله أرضهم فتكون نساؤنا وأولادنا وأثقالنا غنيمة لهم، ويقولون لأصحابهم : قالوا : نجعل علينا رؤساء وننصرف إلى مصر فذلك قوله تعالى :
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٢٢
قالوا يا موسى إنّ فيها قوماً جبارين﴾ أي : عتاة قاهرين لغيرهم مكرهين لغيرهم على ما يريدون ﴿وإنّا لن ندخلها﴾ خوفاً منهم ﴿حتى يخرجوا منها﴾ أي : بأيّ وجه كان ﴿فإن يخرجوا منها فإنا داخلون﴾ لها وأصل الجبّار المتعظم الممتنع عن القهر يقال : نخلة جبارة إذا كانت طويلة ممتنعة عن وصول الأيدي إليها وسمّي هؤلاء القوم جبارين لامتناعهم بطولهم وقوّة أجسادهم، وكانوا من العمالقة وبقية قوم عاد فلما قال بنو إسرائيل ما قالوا وهموا بالانصراف إلى مصر خرّ موسى وهارون عليهما السلام ساجدين وخرق يوشع وكالب ثيابهما وهما اللذان أخبر الله تعالى عنهما في قوله :
﴿قال رجلان من الذين يخافون﴾ أي : مخالفة أمر الله تعالى ﴿أنعم الله عليهما﴾ أي : بالتوفيق والعصمة ﴿ادخلوا عليهم الباب﴾ أي : باب قرية الجبّارين ولا تخشوهم فإنا رأيناهم وأجسادهم عظيمة بلا قلوب ﴿فإذا دخلتموه فإنكم غالبون﴾ أي : لأنّ الله تعالى منجز وعده ﴿وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين﴾ به ومصدّقين بوعده فأراد بنو إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة وعصوا أمرهما.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٢٢