فإن جاؤك} أي : لتحكم فيهم ﴿فاحكم بينهم أو أعرض عنهم﴾ هذا تخيير لرسول الله ﷺ واختلفوا هل نسخ هذا التخيير أم لا ؟
فقال أكثر أهل العلم : هو محكم ثابت وليس في سورة المائدة منسوخ، وحكّام المسلمين بالخيار في الحكم بين أهل الكتاب إن شاءوا حكموا وإن شاءوا لم يحكموا بحكم الإسلام وهو قول النخعيّ والشعبيّ وعطاء وقتادة وقال قوم : يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بينهم والآية منسوخة نسخها قوله تعالى :﴿وأن احكم بينهم بما أنزل الله﴾ (المائدة، ٤٩) وهو قول مجاهد وعكرمة ومرويّ ذلك أيضاً عن ابن عباس وقال : لم ينسخ من المائدة إلا آيتان قوله تعالى :﴿لا تحلوا شعائر الله﴾ (المائدة، ٢) نسخها قوله تعالى :﴿فاقتلوا المشركين﴾ (التوبة، ٥) وقوله تعالى :﴿فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم﴾ (المائدة، ٤٢) نسخها قوله تعالى :﴿وأن احكم بينهم بما أنزل الله﴾ (المائدة، ٤٩) ومذهب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه أنّ الذمّيين وإن اختلفت ملتهما كيهوديّ ونصرانيّ يجب الحكم بينهما عند الترافع، وكذا الذمي مع المعاهد بخلاف المعاهدين فإنّ الحكم لا يجب بينهما ؛ لأنهم لم يلتزموا بأحكامنا ولا التزمنا دفع بعضهم عن بعض فيحمل التخيير على هذا، والآية الأخرى على أهل الذمّة ويعلم من ذلك أنّ الحكم بين الحربيين لا يجب بطريق الأولى ولو ترافع إلينا ذميان في شرب خمر لم نحدّهما وإن رضيا بحكمنا لأنهما لا يعتقدان تحريمه ولو ترافع إلينا مسلم وذمي وجب الحكم بينهما إجماعاً ﴿وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً﴾ بأن يعادوك لإعراضك عنهم فإنّ الله تعالى يعصمك من الناس ﴿وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط﴾ أي : بالعدل الذي أمر الله تعالى به ﴿إنّ الله يحب﴾ أي : يثيب ﴿المقسطين﴾ أي : العادلين في الحكم وقوله تعالى :
﴿وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله﴾ استفهام تعجيب من
٤٣٥
تحكيمهم من لا يؤمنون به والحال أنّ الحكم منصوص عليه في كتابهم الذي هو عندهم، وتنبيه على أنهم ما قصدوا بالتحكيم معرفة الحق وإقامة الشرع وإنما طلبوا منه ما يكون أهون عليهم وإن لم يكن حكم الله تعالى في زعمهم ﴿ثم يتولون﴾ أي : يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم ﴿من بعد ذلك﴾ التحكيم وهذا داخل في حكم التعجب فإنه معطوف على يحكمونك ﴿وما أولئك﴾ أي : السعداء من الله ﴿بالمؤمنين﴾ أي : بكتابهم لإعراضهم عنه أوّلاً أو بك وبه.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٣٥
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى﴾ يهدي من الضلالة إلى الحق ﴿ونور﴾ يكشف ما اشتبه عليهم من الأحكام ﴿يحكم بها النبيون﴾ أي : من بني إسرائيل وقوله تعالى :﴿الذين أسلموا﴾ ذكر على وجه الصفة للأنبياء للتنويه بشأن الصفة دون التخصيص والتمييز ؛ لأنهم كلهم بهذه الصفة منقادون لله تعالى وللتنبيه على عظم قدرها حيث وصف بها عظيم كما وصف الأنبياء بالصلاح والملائكة بالإيمان فإنّ أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف وقوله تعالى :﴿للذين هادوا﴾ متعلق بأنزل أو بيحكم أي : يحكمون بها في تحاكمهم وهو يدلّ على أنّ النبيين أنبياؤهم وقوله تعالى :﴿والربَّانيون﴾ أي : الزهّاد الذين انسلخوا من الدنيا وبالغولوا فيما يوجب النسبة إلى الرّب ﴿والأحبار﴾ أي : العلماء السالكون طريقة أنبيائهم عطف على النبيون ﴿بما﴾ أي : بسبب الذي ﴿استحفظوا﴾ أي : استودعوه ﴿من كتاب الله﴾ أي : استحفظهم الله تعالى إياه بأن يحفظوه من التضييع والتحريف أو بأن يحفظ فلا ينسى وقد أخذ الله على العلماء حفظ كتاب الله من هذين الوجهين معاً : أحدهما : أن يحفظ في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم والثاني : أن لا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه والراجع إلى ما محذوف، ومن للتبيين والضمير في استحفظوا للأنبياء والربانيين والأحبار جميعاً وكذلك الضمير في قوله تعالى :﴿وكانوا عليه شهداء﴾ أي : رقباء حاضرين لا يغيبون عنه ولا يتركون مراعاته أصلاً وقوله تعالى :﴿فلا تخشوا الناس واخشونِ﴾ نهي للحكام أن يخشوا غير الله تعالى في حكوماتهم خوفاً من سلطان ظالم أو خيفة أذية أحد من الأقرباء والأصدقاء، وقرأ أبو عمرو بإثبات الياء في الوصل دون الوقف والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً ﴿ولا تشتروا﴾ أي : تستبدلوا ﴿بآياتي﴾ أي : بأحكامي التي أنزلتها ﴿ثمناً قليلاً﴾ أي : من الرشا وغيرها لتكتموا أو تبدلوها كما فعل أهل الكتاب وقوله تعالى :﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾ قال عكرمة : معناه ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحداً له فقد كفر ومن أقرّ به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق فحمل الآيات على هذا وهو ظاهر، وقال الضحاك وقتادة : نزلت هذه الآيات الثلاث في اليهود دون من أساء من هذه الأمة وقيل : أولئك هم الكافرون في المسلمين لاتصالها بخطابهم والظالمون في اليهود والفاسقون في النصارى.