تنبيه : روعي في منهم معنى من وفيما قبلها لفظها وهم اليهود ﴿أولئك﴾ أي : الملعونون الممسوخون ﴿شرّ مكاناً﴾ لأنّ مأواهم النار وجعلت الشرارة للمكان وهي لأهله وفيه مبالغة ليست في قولك أولئك شر ومكاناً تمييز ﴿وأضل عن سواء السبيل﴾ أي : طريق الحق وأصل السواء الوسط.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٤٣
فإن قيل : ذكر شر وأضلّ يقتضي مشاركة المؤمنين والكفار في الشرّ والضلال وإنّ الكفار أشرّ وأضل مع أنّ المؤمنين لم يشاركوا الكفار في شيء من ذلك أجيب : بأنّ مكان هؤلاء في الآخرة شر وأضل من مكان المؤمنين في الدنيا لما يلحقهم فيها من الشرّ والضلال الحاصل لهم بالهموم الدنيوية كسماع الأذى وغيره، أو إنّ ذلك على سبيل التنزل والتسليم للخصم على زعمه إلزاماً بالحجة وهذا أولى.
ونزل في يهود نافقوا النبيّ صلى الله عليه وسلم.
﴿وإذا جاؤكم قالوا آمنا وقد﴾ أي : قالوا ذلك والحال إنهم قد ﴿دخلوا﴾ إليكم متلبسين ﴿بالكفر وهم قد خرجوا﴾ من عندكم متلبسين ﴿به﴾ أي : الكفر كما دخلوا لم يتعلق بهم شيء مما سمعوا به من تذكيرك بآيات الله ومواعظك ﴿وا أعلم بما كانوا يكتمون﴾ من الكفر وغيره في جميع أحوالهم من أقوالهم وأفعالهم وفي هذا وعيد لهم.
﴿وترى كثيراً منهم﴾ أي : اليهود أو المنافقين ﴿يسارعون﴾ أي : يقعون سريعاً ﴿في الإثم﴾ أي : الكذب بدليل قوله تعالى عن قولهم الإثم ﴿والعدوان﴾ أي : الظلم وقيل : الإثم ما يختص بهم
٤٤٤
والعدوان ما يتعدّى إلى غيرهم ﴿وأكلهم السحت﴾ أي : الحرام كالرشا ﴿لبئس ما كانوا يعملون﴾ عملهم هذا.
﴿لولا﴾ هلا ﴿ينهاهم﴾ أي : يجدّد لهم النهي ﴿الربانيون﴾ أي : المدّعون للتخلي من الدنيا إلى سبيل الرب ﴿والأحبار﴾ أي : العلماء ﴿عن قولهم الإثم﴾ أي : الكذب ﴿وأكلهم السحت﴾ أي : الحرام هذا تحضيض لعلمائهم على النهي عن ذلك فإن لولا إذا دخل على الماضي أفاد التوبيخ وإذا دخل على المضارع المستقبل أفاد التحضيض ﴿لبئس ما كانوا يصنعون﴾ ترك نهيهم.
فإن قيل : لم عبّر في الأوّل بيعملون وفي الثاني بيصنعون ؟
أجيب : بأنّ كل عامل لا يسمّى صانعاً ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرب ولذلك ذم بهذا خواصهم ولأنّ ترك الإنكار على المعصية أقبح من مواقعة المعصية لأنّ النفس تلتذ بها وتميل إليها، ولا كذلك ترك الإنكار عليها فكان جديراً بأبلغ الذمّ فيدخل في الذمّ كل من كان قادراً على النهي عن المنكر من العلماء أو غيرهم وتركه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هي أشد آية نزلت في القرآن، وعن الضحاك ما في القرآن آية أخوف عندي منها.
﴿وقالت اليهود﴾ مما ضيّق عليهم بتكذيبهم النبيّ ﷺ وكانوا أكثر الناس مالاً وأخصبهم ناحية ﴿يد الله مغلولة﴾ أي : هو ممسك يقتر بالرزق، وغلّ اليد وبسطّها مجاز عن البخل والجود ومنه قوله تعالى :﴿ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط﴾ (الإسراء، ٢٩) ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط، ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلاً لقالوا ما أبسط يده بالنوال ؛ لأن بسط اليد وقبضها عبارتان وقعتا متعاقبتين للبخل والجود وقد استعملوها حيث لا تصح اليد كقولهم بسط اليأس كفيه في صدري فجعلت لليأس الذي هو معنى من المعاني لا من الأعيان كفان.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٤٣
فإن قيل : قد تقدّم أنّ قوله :﴿يد الله مغلولة﴾ عبارة عن البخل فما تفعل في قوله تعالى :﴿غلت أيديهم﴾ ومن حقه أن يطابق ما تقدّمه ؟
أجيب : بأنه يجوز أن يكون معناه الدعاء عليهم بالبخل والنكد، ومن ثم كانوا أبخل خلق الله تعالى وأنكدهم والمطابقة على هذا ظاهرة ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغلّ الأيدي حقيقة يغلون في الدنيا أسارى وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم كما قال تعالى :﴿إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل﴾ (غافر، ٧١) وعلى هذا تكون المطابقة حاصلة من حيث لفظ مغلولة وغلت من حيث ملاحظة أنّ الأصل في القول الشنيع أن يقابل بالدعاء على قائله ﴿ولعنوا﴾ أي : أبعدوا مطرودين عن الجناب الكريم ﴿بما قالوا﴾ فمن لعنهم أنهم مسخوا قردة وخنازير ثم ردّ الله تعالى عليهم بقوله :﴿بل يداه مبسوطتان﴾ مشيراً بالتثنية إلى غاية الجود وإنّ غاية ما يبذله السخي من ماله أن يعطي بيديه جميعاً ﴿ينفق كيف يشاء﴾ أي : هو مختار في إنفاقه يضيق تارة ويوسع أخرى على حسب مشيئته ومقتضى حكمته لا اعتراض عليه وقيل : القائل هذه المقالة فنحاص بن عازوراء فلما لم ينهه الآخرون ورضوا بقوله : أشركهم الله تعالى فيها.
﴿وليزيدنّ كثيراً منهم﴾ أي : ممن أراد الله فتنته ثم ذكر فاعل الزيادة فقال :﴿ما أنزل إليك من ربك﴾ من القرآن ﴿طغياناً﴾ أي : تمادياً في الجحود ﴿وكفراً﴾ بآيات الله فيزدادون على كفرهم وطغيانهم طغياناً وكفراً مما يسمعون من القرآن كما يزداد المريض مرضاً من تناول الغذاء الصالح
٤٤٥