للأصحاء ﴿وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة﴾ فكل فرقة منهم تخالف الأخرى فلا تتوافق قلوبهم ولا تتطابق أقوالهم.
﴿كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله﴾ أي : كلما أرادوا محاربة أحد غلبوا وقهروا لم يقم لهم نصر من الله تعالى على أحد وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس، وقيل : خالفوا حكم التوراة فبعث الله عليهم بختنصر ثم أفسدوا فسلط الله عليهم فطرس بالفاء الرومي ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين وقيل : كلما حاربوا رسول الله ﷺ نصر عليهم، وعن قتادة : لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذلّ الناس ﴿ويسعون في الأرض فساداً﴾ أي : ويجتهدون في الكيد للإسلام ومحو ذكر رسول الله ﷺ من كتبهم وإثارة الحرب والفتن وهتك المحارم ﴿وا لا يحبّ المفسدين﴾ أي : فلا يجازيهم إلا شراً.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٤٣
﴿ولو أنّ أهل الكتاب آمنوا﴾ أي : بمحمد ﷺ وبما جاء به ﴿واتقوا﴾ أي : الكفر ﴿لكفّرنا عنهم سيآتهم﴾ أي : التي فعلوها ولم نؤاخذهم بها ﴿ولأدخلناهم جنات النعيم﴾ مع المسلمين، وفي هذا إعلام بعظم معاصي اليهود والنصارى وكثرة سيآتهم ودلالة على سعة رحمة الله تعالى وفتحه باب التوبة على كل عاص وإن عظمت معاصيه وبلغت مبالغ سيآت اليهود والنصارى وإنّ الإسلام يجبّ ما قبله وإن جلّ، وإن الكتابي لا يدخل الجنة ما لم يسلم.
﴿ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل﴾ أي : أقاموا أحكامهما وحدودهما وما فيهما من نعت محمد ﷺ ﴿وما أنزل إليهم﴾ أي : من الكتب المنزلة ﴿من ربهم﴾ لأنهم مكلّفون بالإيمان بجميعها فكأنها أنزلت إليهم وقيل : هو القرآن وقوله تعالى :﴿لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم﴾ عبارة عن التوسعة أي : لوسّع عليهم أرزاقهم بأن يفيض عليهم من بركات السماء والأرض أو أن تكثر الأشجار المثمرة والزروع المغلّة أو أن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار فيجنونها من رأس الثمر والشجر ويلتقطون ما تساقط على الأرض من تحت أرجلهم بين سبحانه وتعالى بذلك أن ما كف عنهم بشؤم كفرهم ومعاصيهم لا بقصور الفيض ولو أنهم آمنوا وأقاموا ما أمروا به لوسع عليهم وجعل لهم خير الدارين ﴿منهم أمّة﴾ أي : جماعة ﴿مقتصدة﴾ أي : عادلة غير غالية ولا مقصّرة وهم عبد الله بن سلام وأصحابه وثمانية وأربعون من النصارى آمنوا بالنبيّ ﷺ وقيل : متوسطة في عداوته ﴿وكثير منهم ساء﴾ أي : بئس ﴿ما﴾ أي : شيئاً ﴿يعملون﴾ فيه معنى التعجب كأنه قيل : وكثير منهم ما أسوأ عملهم وقيل : هو كعب بن الأشرف وأصحابه والروم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٤٦
روى مسروق عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : من حدثك أنّ محمداً كتم شيئاً مما أنزل الله فقد كذب وهو يقول :
﴿يأيها الرسول بلغ﴾ جميع ﴿ما أنزل إليك من ربك﴾ أي : لا تكتم شيئاً منه خوفاً أن تنال بمكروه ﴿وإن لم تفعل﴾ أي : وإن لم تبلغ جميع ما أنزل إليك ﴿فما بلغت رسالته﴾ أي : لأنّ كتمان بعضها ككتمان كلها أي : ولأنّ بعضها ليس بالأولى بالأداء من بعض فإذا لم تؤدّ بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعاً، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إن كتمت آية لم تبلغ رسالتي واختلف في سبب نزول هذه الآية فقيل : نزلت في عتب اليهود وذلك أنّ النبيّ ﷺ دعاهم إلى الإسلام فقالوا : أسلمنا قبلك وجعلوا يستهزؤون به ويقولون : تريد أن نتخذك حناناً كما اتخذت النصارى عيسى حناناً فلما رأى النبيّ ﷺ ذلك نزلت هذه الآية وقيل : نزلت في الجهاد وذلك أنّ المنافقين كانوا يكرهونه فكان يمسك أحياناً من حثهم على الجهاد وقيل : لما نزلت آية التخيير وهي قوله تعالى :﴿يأيها النبيّ قل
٤٤٦
لأزواجك﴾ (الأحزاب، ٢٨) فلم يعرضها عليهنّ خوفاً من اختيارهنّ الدنيا فنزلت وقيل غير ذلك وقرأ نافع وابن عامر وشعبة بألف بعد اللام وكسر التاء والباقون بغير ألف ونصب التاء ﴿وا يعصمك من الناس﴾ أي : يحفظك ويمنعك منهم.
فإن قيل : أليس قد شج وجهه وكسرت رباعيته ﷺ وأوذي بضروب من الأذى ؟
أجيب : بأنّ معناه يعصمك من القتل فلا يصلون إلى قتلك، وفي هذا تنبيه على أنه يجب عليه أن يحتمل كل ما دون النفس من أنواع البلايا فما أشدّ تكليف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقيل : نزلت هذه الآية بعدما شج رأسه لأنّ سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن.