وروى إسحاق بن راهويه في مسنده عن النبيّ ﷺ أنه قال :"بعثني الله برسالاته فضقت بها ذرعاً فأوحى الله إليّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك وضمن لي العصمة فقويت" وعن أنس رضي الله تعالى عنه : كان رسول الله ﷺ يحرس حتى نزلت فأخرج رأسه من قبة أدم فقال :"انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله من الناس" قال البيضاويّ وظاهر الآية يوجب تبليغ كل ما أنزل ولعل المراد بالتبليغ ما يتعلق به مصالح العباد وقصد بإنزاله اطلاعهم عليه فإن من الأسرار الإلهية ما يحرم إفشاؤه اه.
قال بعض العارفين : ولهذا قال تعالى :﴿بلغ ما أنزل إليك﴾ ولم يقل ما تعرّفنا به إليك، واعلم أنّ المراد من الناس ههنا الكفار بدليل قوله تعالى :﴿إنّ الله لا يهدي القوم الكافرين﴾ أي : لا يمكنهم مما يريدون.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٤٦
وروي "أنه عليه الصلاة والسلام نزل تحت شجرة في بعض أسفاره وعلق سيفه عليها فأتاه أعرابيّ وهو نائم وأخذ سيفه واخترطه وقال : من يمنعك مني يا محمد ؟
قال :"الله تعالى" فرعدت يد الأعرابيّ وسقط من يده وضرب رأسه الشجرة حتى انتثر دماغه".
﴿قل يا أهل الكتاب لستم على شيء﴾ أي : دين يعتد به حتى يسمى شيئاً لفساده وبطلانه كما تقول هذا ليس بشيء تريد تحقيره وتصغير شأنه، وفي أمثالهم أقل من لا شيء ﴿حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم﴾ أي : بأن تعملوا بما فيها ومن إقامتهما الإيمان بمحمد ﷺ والإذعان لحكمه فإن الكتب الإلهية بأسرها آمرة بالإيمان بمن صدقته المعجزة ناطقة بوجوب الطاعة له والمراد إقامة أصولها وما ينسخ من فروعها ﴿وليزيدنّ كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك﴾ أي : من القرآن ﴿طغياناً وكفراً﴾ لكفرهم به ﴿فلا تأس﴾ أي : تحزن ﴿على القوم الكافرين﴾ إن لم يؤمنوا بك أي : لا تهتم بهم فإن ضرر ذلك لا حق بهم لا يتخطاهم وفي المؤمنين مندوحة عنهم لك.
﴿إنّ الذين آمنوا والذين هادوا﴾ هم اليهود ﴿والصابئون﴾ فرقة منهم ﴿والنصارى﴾ وقد سبق تفسير هذه الآية في سورة البقرة.
فإن قيل : بم رفع الصابئون وكان حقه والصابئين ؟
أجيب : بأنه رفع على الابتداء وخبره
٤٤٧
محذوف والنية به التأخير عما في خبر إنّ مع اسمها وخبرها كأنه قيل : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا والصابئون كذلك وأنشد سبيويه شاهداً له :
*وإلا فاعلموا أنا وأنتم ** بغاة ما بقينا في شقاق*
والشاهد في أنتم فإنه مبتدأ حذف خبره والتقدير وإلا فإنا بغاة وأنتم كذلك.
فإن قيل : ما فائدة هذا التقديم والتأخير ؟
أجيب : بأنّ الصابئين أشدّ العرب المذكورين في هذه الآية ضلالاً وما سموا صابئين إلا لأنهم صبأوا عن الأديان كلها أي : خرجوا فكأنه قال : هؤلاء الفرق الذين آمنوا وأتوا بالعمل الصالح قبل الله توبتهم حتى الصابئون فإنهم إن آمنوا كانوا أيضاً كذلك، وقيل : منصوب بالفتحة فكما جوّز بالفتحة مع الياء في بنين وسنين جوّز مع الواو كما هنا وقوله تعالى :﴿من آمن با واليوم الآخر وعمل صالحاً﴾ في محل رفع بالابتداء وخبره ﴿فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ في الآخرة والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط والجملة خبر إن.
فإن قيل : كيف قيل : الذين آمنوا من آمن ؟
أجيب : بأنّ المراد بالذين آمنوا الذين آمنوا بألسنتهم وهو المنافقون أو إنّ المراد مِنْ مَنْ ثبت على الإيمان واستقام ولم تخالجه ريبة فيه.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٤٦
لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل﴾
أي : على الإيمان بالله ورسوله ﴿وأرسلنا إليهم رسلاً﴾ أي : ولم نكتف بهذا العهد بل أرسلنا رسلاً ليذكروهم وليبينوا لهم أمر دينهم ﴿كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم﴾ أي : بما يخالف هواهم من الشرائع ومشاقّ التكاليف ﴿فريقاً﴾ أي : من الرسل ﴿كذبوا﴾ أي : كذبهم بنو إسرائيل من غير قتل كعيسى ﴿وفريقاً﴾ منهم ﴿يقتلون﴾ كزكريا ويحيى وإنما جيء بيقتلون موضع قتلوا على حكاية الحال الماضية استحضاراً لتلك الحالة الشنيعة للتعجب منها وتنبيهاً على أنّ ذلك دينهم ماضياً ومستقبلاً ومحافظة على رؤوس الآي.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٤٦
٤٤٨


الصفحة التالية
Icon