﴿وحسبوا﴾ أي : ظنّ بنو إسرائيل ﴿أن لا تكون﴾ أي : توجد ﴿فتنة﴾ أي : لا يصيبهم بها عذاب في الدنيا ولا في الآخرة بل استخفوا بأمرها فلا تعجب أنت من جرأتهم في ادعائهم إنهم أبناء الله وأحباؤه، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي برفع النون تنزيلاً للحساب منزلة العلم فتكون مخففة من الثقيلة وأصله أنه لا تكون فتنة والباقون بالنصب على أنّ الحساب على بابه ﴿فعموا﴾ أي : عن الحق فلم يبصروه وهذا العمى هو الذي لا عمى في الحقيقة سواه وهو انطماس البصائر ﴿فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور﴾ (الحج، ٤٦) ﴿وصموا﴾ عنه فلم يسمعوه أي : عَموا وصموا بعد موسى ويوشع عليهما السلام، والصمم أضر من العمى فصاروا كمن لا يهتدي إلى سبيل أصلاً ؛ لأنه لا بصر له بعين ولا قلب ولا سمع ﴿ثم تاب الله عليهم﴾ ببعث عيسى بن مريم فرفعوه إلى الحق ﴿ثم عموا وصموا﴾ كرّة أخرى بالكفر بمحمد ﷺ وقوله تعالى :﴿كثير منهم﴾ بدل من الضمير ﴿وا بصير بما يعملون﴾ أي : وإن دقّ فيجازيهم به وفق أعمالهم.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٤٨
لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح بن مريم﴾ وهم اليعقوبية منهم القائلون بالاتحاد ﴿وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم﴾ أي : إني عبد مربوب مثلكم فاعبدوا خالقي وخالقكم ﴿إنه من يشرك با﴾ أي : يشرك في العبادة غيره ﴿فقد حرّم الله عليه الجنة﴾ أي : منعه من دخولها منعاً متحتماً فإنها دار الموحدين ﴿ومأواه النار﴾ أي : محل سكناه فإنها المعدة للمشركين ﴿وما للظالمين من أنصار﴾ أي : وما لهم أحد ينصرهم من النار لا بفداء ولا بشفاعة ولا بغيرهما فوضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً على أنهم ظلموا بالإشراك وعدلوا عن طريق الحق وهو يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى، نبه على أنهم عدلوا عن سبيل الحق فيما تقوّلوا على عيسى عليه السلام فلذلك لم يساعدهم عليه ولم ينصر قولهم، ورده وأنكره وإن كانوا معظمين له بذلك ورافعين من مقداره، وأن يكون من كلام عيسى عليه السلام على معنى ولا ينصركم أحد مني فيما تقولون ولا يساعدكم عليه لاستحالته وبعده عن العقول أو لا ينصركم ناصر في الآخرة من عذاب الله.
﴿لقد كفر الذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة﴾ أي : أحد ثلاثة وهو حكاية عما قاله النسطورية والملكانية وفيه إضمار معناه ثالث ثلاثة الآلهة لأنهم يقولون : الإلهية مشتركة بين الله ومريم وعيسى ولك واحد من هؤلاء إله فهم ثلاثة آلهة، بين هذا قوله تعالى للمسيح :﴿أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله﴾ (المائدة، ١١٦) ومن قال إنّ الله تعالى ثالث ثلاثة بالعلم ولم يرد به الآلهة لم يكفر فإنّ الله يقول :﴿ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم﴾ وقال النبيّ ﷺ لأبي بكر :"ما ظنك باثنين الله ثالثهما" ثم قال الله تعالى رداً عليهم :﴿وما من إله إلا إله واحد﴾
٤٤٩
أي : وما في الموجودات واجب مستحق للعبادة من حيث إنه مبدأ جميع الموجودات إلا إله واحد موصوف بالوحدانية متعال عن الشركة ومن مزيدة للاستغراق ﴿وإن لم ينتهوا﴾ أي : الكفرة بجميع أصنافهم ﴿عما يقولون﴾ أي : من هاتين المقالتين وما داناهما ﴿ليمسنّ﴾ أي : مباشرة من غير حائل ﴿الذين كفروا﴾ أي : داوموا على الكفر ﴿منهم عذاب أليم﴾ أي : مؤلم لم ينقطع عنهم لعدم توبتهم ولذلك عقبه بقوله تعالى :
﴿أفلا يتوبون﴾ أي : يرجعون بعد هذا الكفر الذي لا أوضح من بطلانه ولا أبين من فساده ﴿إلى الله ويستغفرونه﴾ أي : يطلبون منه غفران ما أقدموا عليه من تلك العقائد والأقوال الزائغة ويستغفرونه بالتوحيد والتنزيه عن الاتحاد والحلول بعد هذا التقريع والتهديد ﴿وا غفور﴾ أي : بالغ المغفرة يمحو الذنوب فلا يعاقب عليها ولا يعاتب ﴿رحيم﴾ أي : بالغ الإكرام لمن أقبل عليه فيغفر لهم ويمنحهم من فضله إن تابوا وفي هذا الاستفهام تعجيب من إصرارهم.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٤٨
ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت﴾ أي : مضت ﴿من قبله الرسل﴾ أي : ليس هو بإله كالرسل الذين مضوا لم يكونوا آلهة وما من خارقة له إلا وقد كان مثلها أو أعجب منها لمن كان قبله فإن كان قد أحيا الموتى على يده فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى على يد موسى وهو أعجب وإن كان قد خلقه من غير أب فقد خلق آدم من غير أب وأمّ وهو أغرب ﴿وأمه صدّيقة﴾ أي : بليغة الصدق في نفسها كسائر النساء اللاتي يلازمن الصدق أو يصدّقن الأنبياء كما قال تعالى في وصفها ﴿وصدّقت بكلمات ربها﴾ (التحريم، ١٢) وهذه الآية من أدلة من قال إنّ مريم عليها السلام لم تكن نبية فإنه تعالى ذكر أشرف صفاتها في معرض الردّ على من قال بإلهيتها إشارة إلى ما هو الحق في اعتقاد ما لهما من أعلى الصفات فإنّ أعظم صفات عيسى عليه السلام الرسالة وأكمل صفات أمه عليها السلام الصديقية.