وروي أنّ عمر رضي الله تعالى عنه قال : يا رسول الله أنا حديث عهد بجاهلية اعف عنا يعف الله عنك فسكن غضبه، وللبخاريّ في التفسير عن أنس أيضاً قال : خطب رسول الله ﷺ خطبة ما سمعت مثلها قط قال :"لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً" فغطى أصحاب رسول الله ﷺ وجوههم لهم حنين فقال رجل : من أبي ؟
قال : فلان فنزلت هذه الآية. وللبخاري أيضاً عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كان قوم يسألون رسول الله ﷺ استهزاء فيقول الرجل : من أبي ؟
يقول الرجل تضلّ ناقته أين ناقتي ؟
فأنزل الله فيهم هذه الآية.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه ﷺ كان يخطب ذات يوم وهو غضبان من كثرة ما يسألون عنه مما لا يعنيهم فقال ﷺ "لا أسأل عن شيء إلا وأجيب" فقال رجل : أين أنا ؟
قال :"في النار" وقال آخر : من أبي ؟
قال :"حذافة" وكان يدعى لغيره فنزلت هذه الآية. وقيل غير ذلك ولا تعارض بين هذه الأخبار ولو تعذر ردّها إلى شيء واحد لما مرّ عند قوله تعالى :﴿لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم﴾ (المائدة، ٨٧) من أنّ الأمر الواحد قد تتعدّد أسبابه. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية مع تحقيق الأولى والباقون بتحقيقهما. ولما كان ربما وقع في وهم متعنت أنّ هذا الزجر إنما هو لقصد راحة المسؤول عن السؤال خوفاً من عواقبه قال تعالى :﴿وإن تسألوا عنها﴾ أي : تلك الأشياء التي تتوقع مساءتكم عند إبدائها ﴿حين ينزل القرآن تبد لكم﴾ المعنى : إذا سألتم عن أشياء في زمنه ﷺ ينزل القرآن بإبدائها ومتى أبداها ساءتكم فلا تسألوا.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٦٠
روي أنه ﷺ قال :"إنّ الله تعالى قد فرض فرائض فلا تضيعوها وحدّ حدوداً فلا تعتدوها ثم عفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها"، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخيف الزاي والباقون بفتح النون وتشديد الزاي وقوله تعالى :﴿عفا الله عنها﴾ استئناف أي : عفا الله عما
٤٦٢
سلف من مسألتكم فلا تعودوا إلى مسألتها أو صفة أخرى أي : عن أشياء عفا الله عنها ولا يكلف بها.
روي أنه لما نزل ﴿و على الناس حج البيت﴾ (آل عمران، ٩٧) قال سراقة بن مالك : ألكل عام فأعرض عنه ﷺ حتى أعاد ثلاثاً فقال :"لا ولو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما استطعتم فاتركوني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه".
﴿وا غفور﴾ يمحو الزلات عيناً وأثراً ويعقبها بالإكرام ﴿حليم﴾ لا يعجل على العاصي بالعقوبة وقوله تعالى :
﴿قد سألها قوم﴾ الضمير فيه للمسألة التي دلّ عليها تسألوا ولذلك لم يعدّ بعن أو الأشياء بحذف الجار وقوله تعالى :﴿من قبلكم﴾ قال البيضاويّ : متعلق بسألها وليس صفة لقوم فإن ظرف الزمان لا يكون صفة لجثة ولا حالاً منها ولا خبراً عنها اه. قال أبو حيان : هذا محله في ظرف الزمان المجرّد من الوصف أمّا إذا لم يتجرّد عنه فيصح أن يكون صفة للجثة أو حالاً منها أو خبراً عنها، وقبل وبعد وصفان في الأصل فإذا قلت : جاء زيد قبل عمرو فالمعنى جاء في زمان قبل زمان مجيئه أي : تقدّم عليه ولذا صح وقوعه صلة للموصول ولو لم يلحظ فيه الوصف ولو كان ظرف زمان مجرّداً لم يجز أن يقع صلة قال تعالى :﴿والذين من قبلكم﴾ (البقرة، ٢١) ولا يجوز والذين اليوم وممن سألها قبلهم ثمود سألوا صالحاً الناقة وسأل قوم عيسى المائدة ﴿ثم أصبحوا﴾ أي : صاروا ﴿بها﴾ أي : بسببها ﴿كافرين﴾ حيث لم يأتمروا بما سألوا جحوداً وقوله تعالى :
﴿ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام﴾ ردّ وإنكار لما ابتدعته أهل الجاهلية.
روي أنّ أهل الجاهلية كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر يجزوا أذنها أي : شقوها وتركوا الحمل عليها وركوبها ولم يجزوا وبرها ولم يمنعوها الماء والكلأ وقيل : إنهم كانوا ينظرون إلى خامس ولدها فإن كان ذكراً نحروه فأكله الرجال والنساء وإن كان أنثى يجزوا أذنها أي : شقوها وتركوها، وحرم على النساء لبنها ومنافعها وكانت منافعها خاصة للرجال وإذا ماتت حلت للرجال والنساء.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٦٠
وأما السائبة فكان الرجل منهم يقول : إن شفيت أو ردّ غائبي فناقتي سائبة ثم يسيبها فلا تحبس عن مرعى ولا ماء ولا تركب ويجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها وقيل : كانت الناقة إذا تابعت ثنتي عشرة سنة إناثاً سيبت فلم يركب ظهرها ولم يجزّ وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف فإن نتجت بعد ذلك أثنى شق أذنها ثم يخلى سبيلها مع أمّها في الإبل فلم تركب ولم يجزّ وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف كما فعل بأمّها فهي البحيرة بنت السائبة.