وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه : خلق الله تعالى آدم عليه السلام من تراب وجعله طيناً ثم تركه حتى كان حمأ مسنوناً ثم خلقه وصوّره وتركه حتى كان صلصالاً كالفخار ثم نفخ فيه من روحه ﴿ثم قضى أجلاً﴾ أي : أجلاً لكم تموتون عند انتهائه ﴿وأجل مسمى﴾ أي : مضروب ﴿عنده﴾ أي : وهو أجل القيامة، وقال الحسن : الأوّل : بين وقت الولادة إلى وقت الموت والثاني : من وقت الموت إلى البعث فإن كان الرجل براً تقياً وصولاً للرحم زيد له من أجل البعث في أجل العمر وإن كان فاجراً قاطعاً للرحم نقص من أجل العمر وزيد في أجل البعث وذلك قوله تعالى :﴿وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب﴾ (فاطر، ١١) وقيل : الأول : النوم، والثاني : الموت وقيل : الأوّل : لمن مضى، والثاني : لمن بقي ولمن يأتي ﴿ثم أنتم﴾ أيها الكفار ﴿تمترون﴾ أي : تشكون في البعث بعد علمكم أنه ابتدأ خلقكم ومن قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر ومعنى ثم استبعاد أيضاً كما مرّ لأن يمتروا فيه بعدما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم.
﴿وهو الله﴾ الضمير لله والله خبره وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائيّ بسكون الهاء من وهو والباقون بالضم وقوله تعالى :﴿في السموات وفي الأرض﴾ متعلق بمعنى اسم الله كأنه قيل : هو مستحق العبادة فيهما ومنه قوله تعالى :﴿وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله﴾ (الزخرف، ٨٤) أو هو المعروف بالإلهية أو المتوحد بالإلهية فيهما، وقال الزجاج : فيه تقديم وتأخير تقديره : وهو الله ﴿يعلم سركم﴾ أي : ما تسرون ﴿وجهركم﴾ أي : ما تجهرون به بينكم في السموات والأرض، وقيل : معناه وهو إله السموات والأرض كقوله تعالى :﴿وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله﴾ (الزخرف، ٨٤) ﴿ويعلم ما تكسبون﴾ أي : ما تعملون من خير أو شرّ فيثيب عليه أو يعاقب.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٧٣
فإن قيل : الأفعال إمّا أفعال القلوب وهي المسماة بالسر وإمّا أفعال الجوارح وهي المسماة بالجهر والأفعال لا تخرج عن السرّ والجهر فقوله تعالى :﴿ويعلم ما تكسبون﴾ يقتضي عطف الشيء على نفسه وهو غير جائز أجيب : بأنّ المراد بالسر ما يخفى وبالجهر ما يظهر من أحوال الأنفس وبالمكتسب أعمال الجوارح فهو كما يقال : هذا المال كسب فلان أنه مكتسبه فلا يحمل على نفس الكسب وإلا لزم عطف الشيء على نفسه.
﴿وما تأتيهم﴾ أي : الكفار ﴿من آية من آيات ربهم﴾ من الأولى مزيدة للاستغراق والثانية للتبعيض أي : ما يظهر لكم دليل قط من الأدلة أو معجزة من المعجزات أو آية من آيات القرآن ﴿إلا كانوا عنها معرضين﴾ أي : تاركين لها وبها مكذبين.
﴿فقد كذبوا بالحق لما جاءهم﴾ أي : بالقرآن وبمحمد ﷺ وبما أتى به من المعجزات
٤٧٥
﴿فسوف يأتيهم أنباء﴾ أي : عواقب ﴿ما كانوا به يستهزؤن﴾ بنزول العذاب بهم في الدنيا والآخرة أو عند ظهور الإسلام وارتفاع أمره.
﴿ألم يروا﴾ أي : في أسفارهم إلى الشام وغيرها ﴿كم﴾ خبرية بمعنى كثيراً ﴿أهلكنا من قبلهم من قرن﴾ أي : أمّة من الأمم الماضية، وعلى هذا القرن الجماعة من الناس وجمعه قرون، وقيل : القرن مدّة من الزمان قيل : إنها عشرة أعوام، وقيل : عشرون، وقيل : ثلاثون، وقيل : أربعون، وقيل : خمسون، وقيل : ستون، وقيل : سبعون، وقيل : ثمانون، وقيل : تسعون، وقيل : مائة.
لما روي أنّ النبيّ ﷺ قال لعبد الله بن بشر المازني :"تعيش قرناً" فعاش مائة سنة وقيل : مائة وعشرون فيكون معناه على هذه الأقاويل من أهل قرن ﴿مكناهم في الأرض﴾ أي : جعلنا لهم فيها مكاناً بالقوّة والسعة وقررناهم فيها ﴿ما لم نمكن لكم﴾ أي : ما لم نجعل لكم من السعة والقوّة فيه التفات عن الغيبة، والمعنى : لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عاداً وثموداً وغيرهم من البسطة في الأجسام والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا ﴿وأرسلنا السماء﴾ هي المطر ﴿عليهم مدراراً﴾ أي : متتابعاً ﴿وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم﴾ أي : تحت مساكنهم ﴿فأهلكناهم بذنوبهم﴾ أي : بسبب ذنوبهم بتكذيبهم الأنبياء فلم يغن ذلك عنهم شيئاً ﴿وأنشأنا﴾ أي : أحدثنا ﴿من بعدهم قرناً آخرين﴾ بدلاً منهم.
فإن قيل : ما فائدة ذكر أنشأنا قرناً آخرين بعدهم ؟
أجيب : بأنه ذكر للدلالة على أنه تعالى لا يتعاظمه أن يهلك قرناً ويخرب بلاده منهم فإنه قادر على أن ينشىء مكانهم آخرين يعمر بهم بلاده فهو قادر على أن يفعل ذلك بكم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٧٣
ونزل لما قال النضر بن الحارث وعبد الله بن أمية ونوفل بن خويلد : يا محمد لن نؤمن بك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله وأنك رسوله ﴿ولو نزلنا عليك كتاباً﴾ أي : مكتوباً ﴿في قرطاس﴾ أي : رق كما اقترحوه ﴿فلمسوه بأيديهم﴾ أبلغ من عاينوه لأنه أنفى للشك ﴿لقال الذين كفروا أن﴾ أي : ما ﴿هذا إلا سحر مبين﴾ أي : تعنتاً وعناداً كما قالوا في انشقاق القمر.


الصفحة التالية
Icon