﴿وإن كان كبر﴾ أي : عظم وشق ﴿عليك إعراضهم﴾ عنك وعن الإيمان بما جئت به ﴿فإن استطعت أن تبتغي﴾ أي : تطلب بجهدك وغاية طاقتك ﴿نفقاً﴾ أي : منفذاً ﴿في الأرض﴾ تنفذ فيه إلى ما عساك تقدر إلى الانتهاء إليه ﴿أو سلماً في السماء﴾ أي : جهة العلوّ لترتقي فيه إلى ما تقدر عليه ﴿فتأتيهم بآية﴾ أي : مما اقترحوه عليك فافعل لتشاهد أنهم لا يزدادون عند إتيانك بها إلا إعراضاً كما أخبرناك لأنّ الله تعالى شاء ضلال بعضهم والمقصود بهذا بيان شدّة حرصه ﷺ على هدايتهم وأنه لو قدر أن يتكلف النزول إلى تحت الأرض أو فوق السماء فيأتيهم بما يؤمنون به لفعل ﴿ولو شاء الله﴾ هدايتهم ﴿لجمعهم على الهدى﴾ أي : لوفقهم له ولكن لم يشأ ذلك فلم يؤمنوا والمعتزلة أوّلوا ﴿لو شاء الله﴾ بأنه لو شاء لجمعهم على الهدى بأن يأتيهم بآية ملجئة ولكن لم يفعل لخروجه عن الحكمة، وجرى على هذا الزمخشريّ في كشافه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٨٢
والمعنى : أنّ أسناد مشيئة الجمع إلى الله تعالى ظاهر في أنه هو المهدي والمضل والمعتزلة لما قالوا : إنه بفعل العبد احتاجوا إلى التأويل ﴿فلا تكونن من الجاهلين﴾ أي : لا يشتدّ تحسرك على تكذيبهم ولا تجزع من إعراضهم عنك فتقارب حال الجاهلين الذين لا صبر لهم وإنما نهاه عن هذه الحالة وغلظ عليه الخطاب تبعيداً له عن هذه الحالة.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٨٢
٤٨٤
﴿إنما يستجيب﴾ دعاءك إلى الإيمان ﴿الذين يسمعون﴾ سماع تفهم واعتبار كقوله تعالى :﴿أو ألقى السمع وهو شهيد﴾ (ق، ٣٧) وهم المؤمنون الذين فتح الله تعالى لهم أسماع قلوبهم فهم يسمعون الحق ويستجيبون له ويتبعونه دون من ختم الله على سمع قلبه وهو قوله :﴿والموتى﴾ أي : الكفار لشبههم بهم في عدم السماع ﴿يبعثهم الله﴾ في الآخرة ﴿ثم إليه يرجعون﴾ أي : يردّون فيجازيهم بأعمالهم.
﴿وقالوا﴾ أي : رؤساء قريش ﴿لولا﴾ أي : هلا ﴿نزل عليه آية﴾ مما اقترحوا ﴿من ربه﴾ المحسن إليه كالناقة والعصا والمائدة أو آية تضطرّهم إلى الإيمان كنتق الجبل أو آية إن جحدوها هلكوا ﴿قل﴾ لهم ﴿إنّ الله قادر على أن ينزل آية﴾ مما اقترحوه أو آية تضطرّهم إلى الإيمان أو آية إن جحدوها هلكوا لا يعجزه شيء ﴿ولكنّ أكثرهم لا يعلمون﴾ أي : ماذا عليهم في إنزالها من العذاب إن لم يؤمنوا بها ولهم فيما أنزل مندوحة عن غيره، وقرأ ابن كثير : ينزل، بسكون النون وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي والمعنى واحد.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٨٤
وما من دابة في الأرض﴾
أي : تدب على وجهها ﴿ولا طائر بطير بجناحيه﴾ في الهواء وهو بالمدّ ما بين السماء والأرض وهو المراد هنا وأمّا الهوى بالقصر فهوى النفس وليس مراداً وإنما قال :﴿بجناحيه﴾ مع أنّ الطيران لا يكون إلا بهما قطعاً لمجاز السرعة ونحوها كما تقول : كتبت بيدي ونظرت بعيني ﴿إلا أمم أمثالكم﴾ أي : محفوظة أحوالها مقدّرة أرزاقها وآجالها، قال العلماء : جميع ما خلق الله تعالى لا يخرج عن هاتين الحالتين حتى ما في البحر لأنّ سيرها في الماء إمّا أن يكون دبيباً أو طيراناً مجازاً وإنما خص ما في الأرض بالذكر دون ما في السماء وإن كان ما في السماء مخلوقاً له لأنّ الاحتجاج بالمشاهد أظهر وأولى مما لا يشاهد.
واختلف العلماء في وجه هذه المماثلة فقال مجاهد : أصناف مصنفة تعرف بأسمائها مثل بني آدم يعرفون بأسمائهم يريد أنّ كل جنس من الحيوان أمة فالطير أمة والدواب أمة والسباع أمة وقال ابن قتيبة : أمم أمثالكم في الغذاء وابتغاء الرزق وتوقي المهالك. وقال عطاء : أمثالكم في التوحيد والمعرفة، وقيل غير ذلك، والمقصود من ذلك الدلالة على كمال قدرته وشمول علمه وسعة تدبيره ليكون كالدليل على أنه قادر على أن ينزل آية ﴿ما فرّطنا﴾ أي : ما تركنا أو ما أغفلنا ﴿في الكتاب﴾ أي : اللوح المحفوظ ﴿من شيء﴾ فلم نكتبه فإنه مشتمل على ما يجري في العالم من الجليل والدقيق ولم يهمل فيه أمر حيوان، وقيل : المراد بالكتاب القرآن فإنه قد دوّن فيه ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلاً ومجملاً، ومن مزيدة وشيء في موضع المصدر لا المفعول به فإن فرّط لا يتعدّى بنفسه، وقد عدّي بفي إلى الكتاب ﴿ثم إلى ربهم يحشرون﴾ قال ابن عباس والضحاك : حشرها موتها، وقال أبو هريرة : يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة الدواب والطير وكل شيء فيأخذ
٤٨٥
للجماء من القرناء، ثم يقول : كوني تراباً فحينئذٍ يتمنى الكافر ويقول :﴿يا ليتني كنت تراباً﴾ (النبأ، ٤).
وروي أنّ رسول الله ﷺ قال :"لتؤدّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء".


الصفحة التالية
Icon