﴿قل﴾ يا محمد لأهل مكة ﴿من ينجيكم من ظلمات البرّ والبحر﴾ أي : من الخسف في البر والغرق في البحر أو من شدائدهما استعيرت الظلمة للشدّة لمشاركتهما في الهول وإبطال الأبصار فقيل : لليوم الشديد يوم مظلم ولغيره يوم ذو كواكب، وقيل : حمله على الحقيقة أولى وظلمات البر هي ما اجتمع فيه من ظلمة الليل وظلمة السحاب فيحصل من ذلك الخوف الشديد لعدم الاهتداء إلى الطريق الصواب وظلمات البحر ما اجتمع فيه من ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة الرياح العاصفة والأمواج الهائلة فيحصل من ذلك أيضاً الخوف الشديد من الوقوع في المهالك والمقصود أنّ عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد لا يرجع الإنسان فيها إلا إلى الله تعالى لأنه هو القادر على كشف الكروب وإزالة الشدائد وهو المراد من قوله :﴿تدعونه تضرّعاً﴾ أي : علانية ﴿وخفية﴾ أي : سرّاً وقوله تعالى :﴿لئن﴾ اللام لام القسم على إرادة القول أي : يقولون والله لئن ﴿أنجيتنا من هذه﴾ أي : الظلمات والشدائد ﴿لنكونن من الشاكرين﴾ لك على هذه النعمة، والشكر : هو معرفة النعمة مع القيام بحقها لمن أنعم بها أي : فنكون من المؤمنين، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي : أنجانا، بحذف التاء وألف بعد الجيم بدل الياء ليوافق قوله تعالى :﴿تدعونه﴾ وأمالها حمزة والكسائي والباقون بالتاء بعد الياء.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٩٢
قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب﴾
أي : غمّ سوى ذلك ﴿ثم أنتم تشركون﴾ أي : تعودون إلى شركة الأصنام معه التي لا تضر ولا تنفع ولا توفون بالعهد وإنما وضع تشركون موضع لا تعبدون تنبيهاً على أنّ من أشرك في عبادة الله تعالى فكأنه لم يعبده ﴿قل﴾ لهم ﴿هو القادر على أن يبعث﴾ في كل وقت يريده ﴿عليكم﴾ في كل حالة ﴿عذاباً من فوقكم﴾ بإرسال الصيحة
٤٩٤
والحجارة والريح والطوفان كما فعل بقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الفيل ﴿أو من تحت أرجلكم﴾ بالغرق أو الخسف كما فعل بفرعون وقارون، وعن ابن عباس ومجاهد : عذاباً من فوقكم : السلاطين الظلمة، أو من تحت أرجلكم : العبيد السوء، وقال الضحاك : من فوقكم أي : من قبل كباركم أو من تحت أرجلكم أي : من أسفل منكم ﴿أو يلبسكم﴾ أي : يخلطكم ﴿شيعاً﴾ أي : فرقاً وينشب فيكم الأهوال المختلفة بقتل بعضكم بعضاً.
روي لما نزلت هذه الآية :﴿قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم﴾ قال ﷺ "أعوذ بوجهك" ﴿ومن تحت أرجلكم﴾ قال :"أعوذ بوجهك" ﴿أو يلبسكم شيعاً﴾ ﴿ويذيق بعضكم بأس بعض﴾ أي : بالقتال، قال رسول الله ﷺ "هذا أهون أو أيسر".
وفي رواية أنه ﷺ قال :"سألت ربي طويلاً أن لا يهلك أمّتي بالغرق فأعطانيها وسألته أن لا يهلك أمّتي بالسنين فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها".
وفي رواية أنه ﷺ سأل الله تعالى ثلاثاً فأعطاه اثنتين ومنعه واحدة "سأله أن لا يسلط على أمّته عدوّاً من غيرهم يظهر عليهم فأعطاه ذلك وسأله أن لا يهلكهم بالسنين فأعطاه ذلك وسأله أن لا يجعل بأس بعضهم على بعض فمنعه ذلك" ﴿انظر﴾ يا محمد ﴿كيف نصرف﴾ أي : نبين لهم ﴿الآيات﴾ الدالة على قدرتنا ﴿لعلهم يفقهون﴾ أي : يعلمون أنّ ما هم عليه باطل فيرجعوا عنه.
﴿وكذب به﴾ أي : القرآن أو العذاب ﴿قومك﴾ أي : الذين من حقهم أن يقوموا بجميع أمرك ويسرّوا بسيادتك فإنّ القبيلة إذا ساد أحدهم عزت به فإن عزه عزها وشرفه شرفها ولا سيما إذا كان من بيت الشرف ومعدن السيادة وإذا سفل أحدها اهتمت به غاية الاهتمام وسترت عيوبها مهما أمكنها فإنّ عاره لاحق لها فهو من عظيم التوبيخ لهم ودقيق التقريع لهم وزاد ذلك بقوله :﴿وهو﴾ أي : والحال أنه ﴿الحق﴾ أي : الثابت الذي لا يضره التكذيب به ولا يمكن زواله ﴿قل﴾ لهم ﴿لست عليكم بوكيل﴾ أي : حفيظ وكل إلي أموركم فأجازيكم أو أمنعكم من التكذيب إنما أنا منذر والله الحفيظ ﴿لكل نبأ﴾ أي : خبر أخبركم به من هذه الأخبار ﴿مستقر﴾ أي : وقت يقع فيه ويستقرّ ومنه عذابكم ﴿وسوف تعلمون﴾ صحة ذلك عند وقوعه، إمّا في الدنيا وإمّا في الآخرة وفي ذلك تهديد لهم.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٩٢
وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا﴾
أي : القرآن بالاستهزاء والتكذيب ﴿فأعرض عنهم﴾ أي : فاتركهم ولا تجالسهم ﴿حتى يخوضوا في حديث غيره﴾ أي : حتى يكون خوضهم في غير الآيات والاستهزاء بها، وذكر الضمير على معنى الآيات لأنها القرآن والخطاب للنبيّ ﷺ والمراد غيره ليكون أردع أو لغيره أي : وإذا رأيت أيها الإنسان ﴿وإمّا﴾ فيه إدغام نون إن الشرطية في ما المزيدة ﴿ينسينك الشيطان﴾ أي : فقعدت معهم ثم تذكرت ﴿فلا تقعد بعد الذكرى﴾ أي : التذكير لهذا النهي ﴿مع القوم الظالمين﴾ أظهر موضع الإضمار تفهماً ودلالة على الوصف الذي هو سبب الخوض.


الصفحة التالية
Icon