﴿فلما رأى القمر بازغاً﴾ أي : مبتدئاً في الطلوع ﴿قال هذا ربي﴾ فأتبعه بصره ﴿فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين﴾، وقيل : إنه كان في السرب سبع سنين، وقيل : ثلاث عشرة سنة، وقيل : سبع عشرة سنة، قال بعض أهل التفسير : فلما شبّ إبراهيم وهو في السرب قال لأمّه : من ربي ؟
قالت : أنا، قال : فمن ربك ؟
قالت : أبوك قال : فمن رب أبي ؟
قالت : اسكت، فسكت ثم رجعت إلى زوجها فقالت : الغلام الذي كنا نحدّث أنه يغير دين أهل الأرض فإنه ابنك، ثم أخبرته بما قال فأتاه أبوه فقال له إبراهيم : يا أبتاه من ربي ؟
قال : أمّك، قال : فمن رب أمّي ؟
قال : أنا، قال : فمن ربك ؟
قال : نمروذ قال : فمن رب نمروذ ؟
فلطمه وقال : اسكت، فلما أخرج من السرب وجنّ عليه الليل رأى المشتري قد طلع ـ وقيل : الزهرة ـ وكانت تلك الليلة في آخر الشهر فتأخر القمر فيها فرأى الكوكب فقال ذلك.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٩٧
وهل ذلك جار على ظاهره أو مؤوّل جرى بعضهم على الأوّل، وقال : كان إبراهيم مسترشداً طالباً للتوحيد حتى وفقه الله تعالى فلم يضره ذلك وأيضاً كان ذلك في طفوليته قبل قيام الحجة عليه فلم يكن كفراً والأصح الثاني إذ لا يجوز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحد وبه عارف ومن كل معبود سواه بريء، ثم قال : في تأويله أوجه : أحدها ـ وهو الأصح : أن إبراهيم ذكر ذلك على وجه الاحتجاج عليهم بقوله : هذا ربي أي : في زعمكم فلما غاب قال : لو كان إلهاً لما غاب كما قال تعالى :﴿ذق إنك أنت العزيز الكريم﴾ (الدخان، ٤٩)
أي : عند نفسك وبزعمك وكما أخبر عن موسى أنه قال :﴿وانظر إلى إلهك﴾ (طه، ٩٧)
أي : في زعمك فلما أفل قال : لا أحبّ الآفلين فضلاً عن عبادتهم فإنّ الانتقال والاحتجاج يقتضي الإمكان والحدوث وينافي الألوهية فلم ينجح فيهم ذلك ﴿فلما رأى القمر بازغاً﴾ قال لهم : هذا ربي فلما أفل أي : غاب قال :﴿لئن لم يهدني ربي﴾ أي : يثبتني على الهدى لا إنه لم يكن مهتدياً والأنبياء لم يزالوا يسألون الله تعالى الثبات على الإيمان وكان إبراهيم عليه السلام يقول : وأجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام.
٤٩٩
﴿فلما رأى الشمس بازغة﴾ أي : عند طلوع النهار ﴿قال﴾ لهم ﴿هذا ربي هذا أكبر﴾ أي : من الكواكب والقمر ولم يقل هذه مع أنّ الشمس مؤنثة لأنه أراد هذا الطالع أو رده إلى المعنى وهو الضياء والنور لأنه رآه أضوأ من النجم والقمر أو ذكره لتذكير خبره ﴿فلما أفلت﴾ أي : غربت وقويت عليهم الحجة فلم يرجعوا ﴿قال يا قوم إني بريء مما تشركون﴾ أي : بالله من الأصنام والأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث التي تجعلونها شركاء لخالقها، والوجه الثاني : من التأويل أنه قال ذلك على وجه الاستفهام تقديره : أهذا ربي ؟
كقوله تعالى :﴿أفائن مت فهم الخالدون﴾ (الأنبياء، ٣٤)
أي : أفهم الخالدون وذكره على وجه التوبيخ منكراً لفعلهم، والوجه الثالث : إنه أراد أن يستدرجهم بهذا القول ويعرّفهم خطأهم وجهلهم ومثل هذا مثل من ورد على قوم يعبدون صنماً فأظهر تعظيمه فأكرموه حتى صدروا في كثير من الأمور عن رأيه إلى أن دهمهم عدوّ فشاوروه في أمره فقال : الرأي أن ندعو هذا الصنم حتى ينكشف عنا ما أصابنا فاجتمعوا حوله يتضرعون فلما تبين لهم أنه لا ينفع ولا يدفع دعاهم إلى أن يدعوا الله تعالى فدعوه فصرف عنهم ما كانوا يجدون فأسلموا.
فإن قيل : لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال ؟
أجيب : بأنّ الاحتجاج بالأفول أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب ولما ظهر خلاف قومه واستمرّوا في شركهم وقالوا له : من تعبد أنت ؟
أظهر لهم ما هو عليه من الحق بقوله :
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٩٧
إني وجهت وجهي﴾ أي : أخلصت قصدي وصرفت عبادتي ﴿للذي فطر السموات والأرض﴾ أي : خلقهما وابتدعهما وهو الله تعالى ﴿حنيفاً﴾ أي : مائلاً إلى الدين القويم عن كل دين يخالفه وأصل الحنيف الميل وهو عن طريق الضلال إلى طريق الاستقامة، وقيل : الحنيف هو الذي يستقبل الكعبة بصلاته ﴿وما أنا من المشركين﴾ تبرأ من الشرك الذي كان عليه قومه أي : وما أنا منكم ولا أعدّ في عدادكم بشيء أقاربكم به.